” الموجة تتصاعد “
مقال: كيف غدت “الصهيونية” لطخة في اليسار الأمريكي؟
صحيفة “الغارديان” البريطانية – مقالاً للكاتب جوناثان غاير
لطالما أعلن جو بايدن بفخر على مدى عقود عن أنه صهيوني، وقد كرر ذلك الزعم منذ هجمات حماس على إسرائيل في السابع من أكتوبر (تشرين الأول). ولكن بالنسبة للاحتجاجات الطلابية التي تنتشر في أرجاء الولايات المتحدة ضد الحرب، غدت كلمات مثل صهيوني والصهيونية نعوت ازدراء، ترمز إلى سياسات الدولة العنيفة التي تحرك الحرب على غزة.
في وسائل التواصل الاجتماعي وفي الشوارع والطرقات، لم يعد النقاد يطلقون على مؤيدي دولة إسرائيل صفة “أنصار إسرائيل”، بل يسمونهم صهاينة، حتى إن بعض مخيمات الاعتصام داخل الجامعات، رفعت يافطات كتب عليها “يمنع دخول الصهاينة”.
يقول الطلاب المحتجون؛ إن انتقاداتهم للصهيونية تنطق من كون دولة إسرائيل تمارس التطهير العرقي ضد الفلسطينيين وتحتل ديارهم. يرد عليهم النشطاء من أنصار إسرائيل بالدفاع عن المصطلح.
ومؤخرا، كتب أكثر من خمسمائة طالب من طلاب جامعة كولومبيا خطاب يقولون فيه: “إذا كنا قد تعلمنا شيئا مما يجري داخل الحرم الجامعي خلال الشهور الستة الأخيرة، فهو أن نسبة كبيرة ومعتبرة من طلاب جامعة كولومبيا، لا يفهمون ماذا تعني كلمة الصهيونية. إننا نفتخر بأننا صهاينة”.
في الأجواء العاطفية التي أثارتها الحرب، فإن الأيديولوجيا التي تعود جذورها إلى أواخر القرن التاسع عشر، والتي قامت دولة إسرائيل بناء عليها، باتت تحظى من الاهتمام بقدر ما تحظى به الدولة نفسها، ولكن لا يوجد للمصطلح معنى يتفق عليه الجميع.
نظم الصحفي النمساوي تيودور هيرتزل أول مؤتمر صهيوني في عام 1897. وكان مشروعه لإقامة وطن جديد لليهود، يتمتعون داخله بالسيادة والاستقلال، قد جاء كرد فعل على معاداة السامية المستشرية والعنيفة في أوروبا، التي كانت إفرازا للأفكار السياسية السائدة حينذاك. غدا هيرتزل ملتزما بدولة يهودية في فلسطين، التي وصفها باعتبارها “موقعا متقدما للحضارة في مواجهة الهمجية”، ولكن لم تقم دولة إسرائيل إلا في عام 1948، بعد مرور عدة عقود على وفاته.
وها نحن نشهد اليوم جيلا من الطلاب، الذين يؤكدون أن ما يرونه من أحداث ما هو إلا نتاج الرؤية الاستيطانية الاستعمارية لهيرتزل.
هذا التحول في الآراء إزاء الصهيونية، يثير البلبلة بين كثير من اليهود الأمريكيين بشكل خاص. فعلى الرغم من أن 58 بالمائة من الأمريكيين اليهود يصفون أنفسهم بالصهاينة، وذلك طبقا لمسح أجرته الباحثة في العلوم السياسية بجامعة كارلتون ميرا سوخاروف، إلا أن المصطلح يعني أمورا مختلفة لمختلف الناس. ترى الأغلبية أن الصهيونية ترمز إلى الارتباط بدولة إسرائيل (حوالي 70 بالمائة من المستطلعة آراؤهم)، وترى شريحة بنفس النسبة تقريبا، أن الصهيونية تعني الاعتقاد بأن إسرائيل يهودية وبأنها دولة ديمقراطية (72 بالمائة من المستطلعة آراؤهم)، بينما تصف أقلية صغيرة أنها تعني “تمتع اليهود بحقوق يتميزون بها عن غير اليهود داخل إسرائيل” (حوالي 10 بالمائة من المستطلعة آراؤهم). أما بالنسبة للأمريكان بشكل عام، فيظهر من استطلاعات رأي أجريت مؤخرا، أن الكثيرين منهم لا معرفة لهم بالمصطلح.
أما بالنسبة للفلسطينيين، فإن الفكرة القائلة بوجود نسخة من الصهيونية بإمكان الفلسطينيين العيش في كنفها بكرامة، أمر ينقضه التاريخ؛ لأن الصهيونية هي الأساس الذي تقوم عليه السياسات التي هجرتهم بشكل جماعي من ديارهم، التي أصبحت إسرائيل في عام 1948، والتي لم تزل تهجرهم منذ ذلك الوقت. يقول ساري مقدسي، أستاذ اللغة الإنجليزية والأدب المقارن في جامعة كاليفورنيا بمدينة لوس أنجيليس (يو سي إل إيه): “عندما يفكر الناس بالصهيونية الآن، فإنهم ينظرون إلى ما يجري في غزة. هذا هو معنى الصهيونية: أنك تسعى من أجل إقامة دولة تقتصر على عرقية واحدة بعينها. إنها صورة قبيحة“.
هناك من يرى أن الرؤية الفلسطينية للصهيونية بدأت، وللمرة الأولى، تحتل الصدارة في خطاب التيار العام. تقول سيمون زيمرمان، مديرة الإعلام في ائتلاف الشتات، وهي المنظمة الدولية التي تركز على مكافحة معاداة السامية وتحويلها إلى سلاح: “أعداد متزايدة من الشباب، بما في ذلك الشباب اليهود، يستمعون إلى أصدقائهم وزملائهم الفلسطينيين في الدراسة، الذين يقولون؛ إن هذا هو ما تعنيه لنا الصهيونية.” وهذا هو الذي يفسر كيف غدت مصطلحات مثل “الدولة العرقية” و “التفوق اليهودي” و”الاستيطان الاستعماري” عبارات مركزية في الاحتجاجات والمظاهرات.
بعد المحرقة (الهولوكوست)، غدت الصهيونية مبدأ أساسيا تقوم عليها منظمات المؤسسة اليهودية في الولايات المتحدة. وتعمقت ارتباطات اليهود الأمريكيين بإسرائيل بعد حربي عام 1967 وعام 1973. في تلك الحقبة، كان الأمريكيون اليهود يرون في إسرائيل معقلا للقيم الليبرالية، وكان المجتمع اليهودي في الولايات المتحدة يبذل جهودا مكثفة في جمع التبرعات دعما لإسرائيل. وكانت معظم البرامج التعليمية اليهودية، سواء داخل المعابد اليهودية أو في أوساط المجتمع اليهودي، تدرس الصهيونية باعتبارها لا تنفصل من حيث الجوهر عن اليهودية.
مؤخرا، كتب بريت ستيفنز، أحد كتاب الأعمدة في صحيفة نيويورك تايمز، يقول: “أنا صهيوني؛ لأنني أرى أن إسرائيل تمثل بوليصة التأمين لكل عائلة من العائلات اليهودية، بما في ذلك عائلتي أنا، التي عانت من الاضطهاد في المهجر في الماضي، وتدرك أننا قد لا ننعم بتاتا بالأمن والأمان، وإلى الأبد، في البلدان المضيفة لنا”.
ولكن لطالما وجدت مجتمعات يهودية كانت ترفض الصهيونية – من الشيوعيين العلمانيين إلى أنماط من اليهود المتدينين (الأرثوذكس). أما اليوم، فقد غدا الطلاب اليهود المعارضون للصهيونية، أكثر وضوحا؛ إذ يقومون اليوم بدور بارز في الاحتجاجات التي تنظم ضد حرب إسرائيل على غزة.
خذ على سبيل المثال مدينة الخيام التي أقامها الطلاب داخل حرم جامعة ويسليان في ولاية كونكتيكات، حيث ينظمون حلقات تدريس حول تاريخ الصهيونية، ويسلطون الضوء على سرديات لم يسمع بها كثير من الطلاب اليهود المشاركين في المخيم في أثناء تلقيهم للتعليم اليهودي الرسمي.
وهم بذلك يرددون ما تقوله منظمات قاعدية لم تزل تتبنى الجهود المعادية للصهيونية، من أجل تخليص اليهودية واستنقاذها من الارتباط بدولة إسرائيل، كما يقولون. ومن هذه المنظمات “صوت يهودي من أجل السلام”، وهي المجموعة التي وقفت بقوة خلف الاحتجاجات التي أخرت في شهر مارس (آذار) خطاب بايدن حول حال الأمة، ثم قاطعته في المناسبات التي ظهر فيها في مانهاتن. يشير جيه سابر، أحد المنظمين النشطين ضمن “صوت يهودي من أجل السلام”، إلى أن الحركة تعمل كذلك على بناء “مجتمع يهودي معاد للصهيونية، مجتمع يهودي متجاوز للصهيونية“.
تمثل هذه الآراء شريحة صغيرة نسبيا ضمن الرأي العام في الولايات المتحدة، إلا أن المشاركين في الاحتجاجات نجحوا في فرض نقاش جديد حول علاقة الأمريكيين اليهود بدولة إسرائيل.
كما أن استمرار الاحتلال الإسرائيلي في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة، ساهم في نقل النقاش أكثر فأكثر باتجاه اليسار، الذي يرى أصحابه الصهيونية، بشكل متزايد، باعتبارها مادة تفسيرية أساسية إذا ما أريد فهم الصراع العربي الإسرائيلي، ويرون أن الحرب على غزة نتيجة منطقية للصهيونية.
كان ثمة إجماع في السابق حول ضرورة تقسيم الأرض بين دولتين – إسرائيل وفلسطين، وكان يُنظر إلى ذلك باعتباره سبيلا للحفاظ على وجود دولة يهودية، لا تبقى إلى الأبد مهيمنة على الفلسطينيين وحاكمة لهم. ولكن المحادثات التي استمرت لعقدين من الزمن، بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية حول مبدأ الأرض مقابل السلام، انهارت في عهد إدارة أوباما، ولم تُستأنف منذ ذلك الوقت.
إن فشل العملية السلمية في إنتاج دولة فلسطينية مستقلة، مع التوسيع المستمر في الاستيطان على الأرض الفلسطينية، غدا دليلا يقنع كثيرا من المراقبين بأن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لم تكن يوما من الأيام جادة في المفاوضات.
الإسرائيليون والفلسطينيون، وخاصة الشباب منهم دون سن الخامسة والثلاثين، أقل ميلا الآن لتأييد حل الدولتين. ومعظم الباحثين المتخصصين في قضايا الشرق الأوسط، بحسب استطلاع للرأي أجري في عام 2023، لا يرون أن قيام الدولة الفلسطينية بات واردا.
كما أن انهيار العملية التي كان من المفروض أن تفضي إلى قيام دولة فلسطينية، جاء بينما وثقت الجماعات المدافعة عن حقوق الإنسان، الفلسطينية والإسرائيلية والدولية منها، ما خلصوا إلى أنه سياسات فصل عنصري (أبارتيد)، تترسخ بشكل متزايد داخل المناطق المحتلة، الأمر الذي يقوض فكرة أن إسرائيل دولة ديمقراطية.
على الرغم من أن نسبة صغيرة من الأمريكيين اليهود يرون في الصهيونية “منظومة تخص اليهود بامتيازات، وحقوق يحرم منها غير اليهود داخل إسرائيل”، إلا أن الفلسطينيين، بما في ذلك من هم مواطنون في إسرائيل، يعيشون واقعا مختلفا تماما، وهذا الأمر وضع الصهاينة الليبراليين في الولايات المتحدة في موقف هش؛ ففي ظل حكومات إسرائيلية تزداد تطرفا نحو اليمين المرة تلو الأخرى، وصلت التوترات الساخنة بين الدولة اليهودية والدولة الديمقراطية إلى نقطة الغليان. وقد كتب بيتر بينارت في عام 2020 يقول؛ “إن الحقيقة المؤلمة، هي أن المشروع الذي كرس الصهاينة الليبراليون من أمثالي أنفسهم له على مدى عقود –دولة للفلسطينيين منفصلة عن دولة لليهود–، قد أخفق، وحان الوقت لأن يتخلى الصهاينة الليبراليون عن فكرة الفصل بين اليهود والفلسطينيين، وأن يتبنوا فكرة تحقيق المساوة بين اليهود والفلسطينيين”.
يصف بينارت نفسه الآن بالصهيوني الثقافي، وذلك قياسا على النقاشات التي كانت تجري في أربعينيات القرن الماضي، والتي كانت ترى إمكانية قيام دولة ذات قوميتين، من شأنها كذلك أن تدعم نمو الثقافة اليهودية والعبرية في فلسطين كما كانت أيام الانتداب. ولكن نموذجا من الصهيونية لا يؤثر المصالح اليهودية لم يتحقق بعد في الواقع العملي، وليس واضحا ما هو الشكل الذي سيكون عليه لو كتب له أن يتحقق.
هل يمكن لإسرائيل أن تنفصل عن الصهيونية؟ يقول مقدسي، من جامعة كاليفورنيا في لوس أنجيليس: “من حيث المبدأ، لا يوجد هناك من يعترض على أن يكون للشعب اليهودي دولته. تكمن المشكلة في أين يختارون لها أن توجد؟ وتحت أي ظروف سوف توجد؟ ومن الذي يتوقع منه أن يدفع ثمن وجودها؟”.
ويمضي قائلا: “لا يوجد للشعب اليهودي حقوق تسبق حقوق الشعب الفلسطيني”.
لربما كانت اللغة الشائعة في أوساط اليسار اليوم، هي جزء من تحول كبير باتجاه التحرير الفلسطيني.
فمرادفات “المقاومة” تتصدر اللغة المستخدمة في الاحتجاجات المناهضة للحرب، مقارنة بما كان عليه الحال من قبل من اللجوء إلى لغة تؤكد التعايش بين الإسرائيليين، اليهود منهم والفلسطينيون.
كثير من المحتجين يعتقدون بأن الدولة ثنائية القومية، حيث ينعم الفلسطينيون بحقوق متساوية، هي السبيل الوحيد نحو الأمام. يقول أليي ريافي، وهو طالب في كلية القانون بجامعة هارفارد، يشارك في معسكر الاحتجاج داخل حرم الجامعة: “خلص الناس إلى الاستنتاج بأن الإصلاح لم يجد نفعا، وأن الفعل الراديكالي هو الحل من أجل إحداث تغيير لصالح عالم ينعم بالعدالة والسلام”.
كثير من اليهود الأمريكيين يشعرون أنهم يتعرضون للهجوم بسبب ما تحظى به الصهيونية من اهتمام حاليا، وقد تجدهم يتعارفون من خلال سلسلة من النماذج – الصهيونية العلمانية، الصهيونية الدينية، الصهيونية العمالية، الصهيونية الليبرالية، أو غير ذلك من أشكال القومية اليهودية، كلها اختزلت حاليا في كلمة ساخرة وحيدة.
ولكن الباحثين الفلسطينيين يقولون؛ إن الصهيونية التي وضعتها الحركة الاحتجاجية في المركز، إنما هي بكل بساطة الأيديولوجية المعلنة لإسرائيل، التي تؤكد هيمنة اليهود على كل الأرض. يقول مقدسي؛ “إن الصهيونية المطبقة عمليا ليست أمرا تجريديا، بل هي تطبق واقعيا في أرض فلسطين، ولقد حدثت، وما تزال تحدث، على حساب الشعب الفلسطيني”.
في مخيم جامعة هارفارد، في كامبريدج ماساشوستس، تقول فيوليت بارون، الطالبة في السنة الجامعية الثانية؛ إنها في سبيل فهم هذه المسائل المعقدة، ترجع إلى زملائها وزميلاتها الفلسطينيين. وتضيف: “مشاهدة حجم الدمار الذي حلّ بغزة، جعلني أفهم ما الذي يمكن أن يبرره الاعتقاد بالصهيونية“.