إن الاندماج الاقتصادي الذي حدث بين الولايات المتحدة والصين خلال العقود الماضية هو ظاهرة غير مسبوقة في التاريخ البشري، حيث لم يسبق أن تداخل اقتصادان بهذا الحجم وبهذا الاختلاف الجذري في الأنظمة السياسية والاقتصادية، فبينما يعتمد الاقتصاد الأمريكي على مبادئ السوق الحرة والديمقراطية، يدير الاقتصاد الصيني حزب شيوعي استبدادي يسيطر على كل شيء.
في البداية، كانت الولايات المتحدة واثقة من أن دمج الصين في الاقتصاد العالمي سيحولها إلى شريك بناء، ويجعلها تتبنى القيم الأمريكية الليبرالية. هذا التفاؤل كان سائداً بين صناع القرار الأمريكيين في أواخر التسعينيات، حتى أن الرئيس بيل كلينتون صرّح بأن انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية ليس مجرد مصلحة اقتصادية، بل هو مصلحة وطنية أكبر.
لكن هذا السيناريو لم يتحقق، فبدلاً من أن تتحول الصين إلى نسخة مصغرة من الولايات المتحدة، استغلت بكين قواعد اللعبة لتعزيز مصالحها الخاصة وتوسيع نفوذها. لقد نمت الصين لتصبح أكبر اقتصاد في العالم ببعض المقاييس، مستخدمة اقتصادها المُدار من الدولة لفرض شروطها على الشركات الأجنبية، بما في ذلك إجبارها على نقل التكنولوجيا. كما استخدمت الحكومة الصينية الدعم الحكومي لمنتجاتها، مثل الألواح الشمسية، لتهديد الأسواق العالمية وإغراقها بأسعار منخفضة جداً، مما أضر بالشركات المنافسة. بل وصل الأمر إلى استخدام قوتها الاقتصادية لإجبار مؤسسات مثل رابطة كرة السلة الأمريكية على الصمت تجاه انتهاكات حقوق الإنسان.
تكمن المشكلة الجوهرية في عدم توافق اقتصاد السوق الحرة مع اقتصاد تسيطر عليه الدولة. ففي نظام السوق الحرة، تسعى الشركات لتحقيق الأرباح، وهو ما يعود بالنفع في النهاية على الصالح العام إذا ما تم الالتزام بالقواعد. لكن عندما يرتبط هذا النظام بسوق تسيطر عليها حكومة استبدادية، يصبح السعي وراء الربح مرتبطاً بالخضوع لهذه الحكومة، وهذا ما فعله العديد من الشركات الأمريكية.
فقد أصبحت الشركات الأمريكية التي تسعى لتحقيق أكبر ربح تضطر للخضوع لمتطلبات الحزب الشيوعي الصيني، مما يؤدي إلى تشوهات في السوق الأمريكية نفسها. وهذا يضع واشنطن في موقف صعب، حيث لم يعد خيار التجارة الحرة منطقياً، بل أصبح يهدد النظام الرأسمالي الديمقراطي نفسه. ولذلك، فإن الحل ليس فقط في “إزالة المخاطر” والتنويع، كما يقترح بعض المسؤولين الأمريكيين مثل وزيرة الخزانة جانيت يلين ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان، بل يتطلب “انفصالاً صعباً” وكاملاً.
يجب أن تتوقف الولايات المتحدة عن محاولة إصلاح “الزواج” الاقتصادي مع الصين وأن تتجه نحو “الطلاق الفوري هذا الانفصال يجب أن يتجاوز مجرد فرض تعريفات جمركية على السلع الصينية. بل يجب أن يشمل أيضاً وقف تدفقات الاستثمار في كلا الاتجاهين وإنهاء الشراكات والمشاريع المشتركة. يجب على القانون الأمريكي أن يحدد فئة من “المستثمرين الأجانب غير المؤهلين”، لمنع المواطنين الصينيين والكيانات التابعة للحزب الشيوعي الصيني من الاستثمار في الولايات المتحدة، سواء في الشركات أو العقارات.
وبالمثل، يجب منع المواطنين والشركات الأمريكية من الاستثمار في الصين أو نقل التكنولوجيا إليها. هذه الخطوات ضرورية لوقف استغلال بكين للشركات الأمريكية، فكما رأينا مع شركة تسلا، يمكن للحكومة الصينية أن تفرض على الشركات الأجنبية التعهد بالالتزام بـ “القيم الاشتراكية الأساسية” مقابل الوصول إلى سوقها الضخم.
لا يقتصر التحدي على الجانب الاقتصادي فقط، بل يمتد ليشمل المؤسسات الأمريكية الحيوية. فالصين تستهدف الجامعات ومراكز الأبحاث ومراكز الفكر لسرقة الملكية الفكرية وتعزيز أجندتها الأيديولوجية. ولذلك، يجب على القانون الأمريكي منع هذه المؤسسات من الدخول في شراكات مع الكيانات الصينية أو قبول تمويل منها. كما يجب حماية حرية التعبير من خلال منع الشركات الأمريكية، مثل شركات الإنتاج السينمائي والرياضي، من تحقيق أرباح في الصين إذا كانت ستخضع لرقابة بكين.
على الرغم من أن هذا الانفصال قد يبدو صعباً ومكلفاً على المدى القصير، إلا أن التكاليف مبالغ فيها. فالولايات المتحدة تستطيع إعادة بناء قدراتها الصناعية والاعتماد على حلفائها في آسيا وأمريكا اللاتينية لتلبية احتياجاتها. وفي الواقع، يمكن أن يكون الانفصال عن الصين فرصة لتعزيز التنمية الاقتصادية في هذه البلدان.
في النهاية، يرى الباحثون أن الانفصال الصعب هو أفضل مسار للولايات المتحدة، حتى لو لم تنضم إليه الدول الأخرى. فالحفاظ على الرأسمالية الديمقراطية يجب أن يكون الأولوية القصوى. والأمر ليس مستحيلاً؛ فقد فعلت الولايات المتحدة شيئاً مشابهاً مع روسيا بعد غزو أوكرانيا، حيث ألغت وضع “الدولة الأكثر رعاية” وفرضت عقوبات قوية عليها. لذا، فإن اتخاذ إجراءات مماثلة ضد الصين ليس مسألة قدرة أو شرعية، بل هو مسألة إرادة وقيم.
إعداد: رئيس مركز الدراسات السياسية: د. ساعود جمال ساعود
