حرص المسؤولون الأمريكيون على تضمين أجندتهم الإعلامية منذ بداية لعملية العسكرية الخاصّة في أوكرانيا على العديد من الأسباب التي يبررون بها دعمهم لأوكرانيا، رغم الشكوك التي أُثيرت حول مصداقيتها، وكان من بين هذه الأسباب القول بالدعم تبعاً لدواعي “أخلاقية” واستراتيجية ، رغم اعتقاد بعض الساسة الأمريكيين بأنّ أوكرانيا ليست محبة للحرية حتى لو تم استخدام التعريف الأوسع للديمقراطية من منظورهم الليبرالي، علماً أن الفترة التي تلت عام 1999م وعودة الإصلاحيين بقوة إلى البرلمان الأوكراني وصولاً إلى ما يسمّى “ثورة البرتقال”، قد شهدت تمهيداً لأرضية سياسية متينة من قبل أمريكا تحت بريق شعارات تحقيق وتعزيز الديمقراطية والازدهار، ومما يضع تذرّعهم بالسبب “الأخلاقي” موضع شك وسخرية بالوقت ذاته، أعزاء قسم من المسؤولين الأمريكيين لالتزامهم تجاه أوكرانيا حقيقةً إلى سعيهم لتحصيل الموارد وحرمان منافسيهم منها، علاوة على “الرغبة بمواصلة حربها بالوكالة مع روسيا”. يعود الدعم العسكري الأمريكي بالترافق مع الدعم الدبلوماسي لأوكرانيا إلى عام 2014م حيث ذكرت صحيفة الصنداي تايمز أنذاك، أنّ الولايات المتحدّة الأمريكية قدّمت حوالي 1.5 مليار دولار أمريكي من المساعدات العسكرية في الفترة الممتدة بين عامي 2014م – 2019م، في حين ذهبت بعض التقارير إلى تقدير حجم المعونة العسكرية ب 2.5 بليون دولار أمريكي في يناير 2022، وضعت الولايات المتحدة 5000 – 8500 جندي في حالة تأهب قصوى في الحادي عشر من شباط عام 2022م لدخول أوكرانيا في تحيّز واضح لصالح أوكرانيا ضد روسيا التي قادت تحركّات استباقية لحماية أمنها القومي بعد تحرّكات وأنشطة مشبوهة للناتو في أوكرانيا وطلب الأخيرة الانضمام إلى الناتو لتكون بذلك الخاصرة الرخوة التي تُستهدف روسيا من خلالها، وهذا ما لم يتم لغاية الوقت الراهن. ما يستدعي التركيز هو حجم المعدات العسكري الأمريكية لأوكرانيا ومصالحها في ذلك وأهدافها، حيث شهدت تزايداً ملحوظاً بعد العملية العسكرية الروسية الخاصّة ومستمرة لغاية الوقت الراهن، والأدلة كثيرة منها ما حدث في 7- 1- 2023م، إذ قدّمت الولايات المتحدة الجمعة، أكبر حزمة مساعدات عسكرية تزيد على 3.75 مليار دولار لأوكرانيا ، تشمل مركبات مضادة للألغام وأنظمة إطلاق صواريخ موجهة وصواريخ أرض جو وألغاما أرضية مضادة للمدرعات وذخيرة، كما تضمنت 225 مليون دولار في شكل تمويل عسكري أجنبي لمساعدة أوكرانيا في بناء جيشها وتحديثه، وصولاً إلى 4- شباط – 2023م، الذي شهد حزمة مساعدات عسكرية أمريكية جديدة بقيمة 2.2 مليار دولار تحتوي على قنابل صغيرة القطر أرضية الإطلاق (GLSDB) ، وصواريخ بعيدة المدى، حيث يمثّل الصراع العسكري في أوكرانيا فرصةً مثالية لكسب المال بالنسبة لصناعة الدفاع الأمريكية، ورغم كثرة الإحصائيات حول الفوائد المالية للمجمع الصناعي العسكري الأمريكي (DIC) من المساعدات العسكرية إلى كييف، إلا تفتقر إلى الدقة وتعاني من التضارب، وتفتقر إلى تصريح أمريكي على وجه التحديد بهذا الخصوص، ومع ذلك فقد ذُكر أن أكثر من 100 مليار دولار أرباح أمريكية من الأسلحة. وجراء هذا الإتفاق المتزايد فقد سجّل مؤخراً حسب وكالة بلومبيرغ قيام شركات (Lockheed Martin) و(Raytheon) على زيادة الإنتاج نظراً لاستنفاد مخزون أنظمة الدفاع الجوي المحمولة من(Stinger MANPADS)، وأنظمة الصواريخ المضادة للدبابات (Javelin ATGM)، والحاجة إلى تلبية الاحتياجات المتزايدة، التي جعلت بعض جناح الصقور يذهبون إلى اقتراب نفاذ ترسانة أسلحة الناتو بسبب التصريف الهائل للأسلحة الأمريكية. هذا التصريف الذي يهدف إلى تزويد القوات الأوكرانية بالأسلحة، وتجنّب مشاركتها المواجهة المباشرة ومع ذلك ينطوي بنظر بعض الأمريكيين على مخاطر عدم القدرة الإنتاجية الكافية لتجديدها بسرعة، قد يفضح الوضع الحالي ضعف أمريكا، وهذا الضعف بدوره يمكن أن يلعب دوراً كبيراً في المواجهة اللاحقة بين القوى العظمى لا سيما الصين التي أجبرت با يدن في قمة العشرين دعوة الرئيس الصيني تشي جي بينغ لضبط التنافس حتى لا يصل لدرجة الصراع، حيث تدرك بكين الدور التخريبي الأمريكي للأمن والاستقرار العالميين فيما يخص مسؤوليتها عن التذخير والتسليح وتأجيج الصراعات الدولية لأسباب وغايات متعددة تجتمع في نقطة واحدة تتمثل بمصلحتها، هذا الأمر الذي أثار الانزعاج الصيني من الأمريكي في تايوان وبلدان الشرق الأوسط وأوكرانيا اليوم، فقد حثت وزارة الخارجية الصينية الولايات المتحدة الأمريكية على وقف إمدادات الأسلحة إلى أوكرانيا، واصفة إياها بـ “صاحبة المبادرة الأكبر في اندلاع الأزمة الأوكرانية”، حيث قالت المتحدثة باسم الخارجية الصينية إن الولايات المتحدة الأمريكية هي صاحبة المبادرة الأكبر في اندلاع الأزمة الأوكرانية، وإذا كانت مهتمة حقا بالشعب الأوكراني، فعليها إيقاف تسليم الأسلحة، وبالفعل تتحدث تقارير وكالة بلومبرغ في تقرير عن تزويد الولايات المتحدة أوكرانيا بالفعل بحوالي 60.000 صاروخ موجّه مضاد للدبابات (ATGMs) و 25.000 من منظومات الدفاع الجوي المحمولة (MANPADS) ، وهو ما يقرب من ثلث المخزون الأمريكي. ولقد أصدر مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) تقريرًا بحثيًا في أوائل يناير 2023 حول معدل استهلاك مخزونات الذخيرة في مستودعات الجيش الأمريكي، أظهرت نتائج التحليل أنه بالنسبة لبعض العناصر المرسلة إلى أوكرانيا ، فإن تجديد ترسانات الولايات المتحدة سيستغرق سنوات. كما تظهر البيانات المجدولة الواردة في الورقة ، فإن إعادة إنتاج قذائف هاوتزر عيار 155 ملم من قبل شركات صناعة الدفاع الأمريكية سيستغرق من أربع إلى سبع سنوات، وصواريخ HIMARS من سنتين إلى ثلاث سنوات، وصواريخ ستينغر من ستة إلى ثمانية عشر عامًا ، اعتمادًا على وتيرة الإنتاج، وهذا يعني وكذلك انخفاض كفاءة الإنتاج لأنّ نقص العمالة الماهرة والقدرة الإنتاجية الفائضة قد يقود إلى إبطاء إعادة التسلّح في زمن الحرب على سبيل المثال لا تستطيع الولايات المتحدة تكثيف إنتاج صواريخ ستينغر لأوكرانيا لأنّ القوة العاملة الماهرة اللازمة للقيام بذلك لم تعد متوفرة، كما أنّ معظم ميزانية البنتاغون البالغة 750 مليار دولار تذهب إلى كشوف المرتبات والرعاية الصحية. وحول التصاريح الرسمية حول الأسباب الفعلية، فقد كشف وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن – عن غير قصد – الدوافع الحقيقية لنقل الأسلحة إلى أوكرانيا، وقال:” إنّ هدف واشنطن ليس فقط مساعدة أوكرانيا … إضعاف روسيا إلى الحد الذي لا يجعلها تشكّل تهديداً لأي شخص”. إن تحقيق مثل هذا الهدف يتطلب بلا شك أعمال عسكرية طويلة الأمد في أوكرانيا الأمر ذاته حدث في أفغانستان، حيث تم استخدام هذه الاستراتيجية في الثمانينيات، وتحدث زبيغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي السابق لرئيس الولايات المتحدة بهذا الخصوص، وأكد أنّ إدارة كارتر بدأت في إمداد الإسلاميين بالسلاح حتى قبل أن تتدخل موسكو في ديسمبر 1979م لدعم الحكومة الشيوعية في كابول. وبالمجمل إنّ تأثير دعم الولايات المتحدة الأمريكية على أمد الحرب يتوقف على معيار نوعية الأسلحة لحد بعيد ، ففي حال زادت من وتيرة دعمها للأوكراني من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة، فإنها ستقود إلى إطالة آمد الحرب، ولكن في حالة تقديم أسلحة نوعية متطوّرة فإنّ ذلك سيستفز روسيا وسيخرج الحرب إلى مسارات خطيرة، وفي حال توقف الدعم الأمريكي ، فإن الحرب ستكون لشهور، علماً أنّ مغبات استمرار هذا التسليح على الأمريكي قد يتمثّل بمواجهة انكشاف ونقص مخزوناتها في حال استمرار التسليح، ولكن المتغيرات الإقليمية والدولية اليوم، وصعود قوى عالمية تنذر بمرحلة مخاض لنظام عالمي متعدد الأقطاب، بالإضافة لجملة المشاكل الاقتصادية التي يواجهها النظام الدولي اليوم قد تجعل الولايات المتحدة الأمريكية مجبرة على الاحتفاظ بما يمكن أن يكون مفيداً في المستقبل للدفاع عن نفسها في حال أُجبرت على خوض حرب في أوروبا الشرقية أو غرب المحيط الهادئ، والحال الأقرب للواقع بخصوص الإمداد الأمريكي لأوكرانيا بالأسلحة مستقبلاً أن يستمر بشكل تدريجي وبأسلحة من النوعية المتوسطة خشية إغضاب الروسي الذين يؤكدون أن لصبرهم حدود ونهاية بعد قرار الأمريكيين والأوربيين الألمان بتسليح الأوكران بدبابات ليبرد وابرامز، إذا الدعم الأمريكي العسكري محدود ومضبوط بغض النظر عن التهويل الإعلامي.
بقلم د.ساعود جمال ساعود