وسط التوتر العسكري الذي شهده الشمال السوري، خرج وزير الخارجية التركية مولود جاويش اوغلو ليصرح بلقاء مع مسؤول سوري رفيع المستوى – حسب زعمه – على هامش اجتماع دول عدم الانحياز في بلغراد ، ليكشف بعد ذلك عمّا سمّاه تفاصيل الجلسة القصيرة ، حيث تذرّع كشف أوغلو بضرورة ايجاد إدارة قوية لمنع انقسام سورية، والمصالحة بين الدولة وما سمّاه جزافاً بـ “المعارضة” ، ودعم وحدة أراضي سورية، وبأنّ عمليات تركيا عبر الحدود ليست ضد سيادة سورية بل لحماية سلامتها الإقليمية، وتقدّيم بلاده كل “أنواع الدعم السياسي” إلى الدولة السورية من أجل إخراج التنظيمات الإرهابية من المنطقة محدداً على وجه الخصوص حزب العمال الكردستاني وقسد، هذا الكلام الذي يحوي الكثير ما بين السطور لقراءته.
إنّ المفهوم من سياق الحديث أن الأتراك مازالوا مصرين على التحايل والتلاعب بالمفاهيم ومنها مفهوم “المعارضة” الذي يتسم بالضبابية والعمومية، فالأتراك يعتبرون الإرهابيين من جملة المعارضين وهذا ما لا يمكن أن تقبل به سورية بأي شكل من الأشكال، وعلى فرض تم تسوية الأمر بين السوريين كما يتخيل الأتراك، فإن هذا يعني سعي التركي للخروج من نطاق دائرة الحلول السياسية سواء اللجنة الدستورية ومؤتمرات الدولية، وبالتالي البحث عن مخرج.
كذلك الأمر عندما حدّد التركي قسد والـ pkK على وجه التحديد دون تعدّيها إلى التنظيمات الإرهابية الأخرى التي تهدد أمن واستقرار سورية، فإن في هذا إغفال لذكر باقي التنظيمات الإرهابية التي ترفع السلاح بوجه الشعب السوري من جهة والتي يجب التعامل معها عسكرياً، ومن جهة أخرى تركيز تركي على مخاوفهم الأمنية فقط دون أن تعنيهم المخاوف الأمنية للدولة السورية بما يوحي بعدم الاشتراك مع السوري في حربه ضد التنظيمات الإرهابية التي مكافحتها شأن سوري داخلي، معزول علن التسويات الدولية، لذلك إن الأتراك لا يؤمن جانبهم، حيث تعمل سياستهم على مبدأ (أنا ومن بعدي الطوفان)، ولعل هذا من مفرزات قمة طهران التي سعوا فيها للوصول إلى سياسة تحديد عدو مشترك يكون بوابة لفتح آفاق جديدة من التنسيق على المستقبل البعيد.
بالمجمل جاءت التصريحات الرسمية للتركي بعد سوتشي التي لاحت فيها تباشير الفرح على معالم أروغان هذا الحرباء الذي يتلون بألف لون، واليوم وبعد سوتشي بالتحديد إن تركيا التي رفض الأوربيين انضمامها إلى الاتحاد الأوربي؛ أصبحت وسيط بينهم وبين الروسي ، وموضع اعتماد وثقة من قبل روسيا، وكأن ما يجري اليوم تسوية دولية بدأت علائمها تلوح في الأفق، والمهم في الأمر هنا: هل يمكن اعتبار التصريحات التركية الأخيرة عكف مسار سياسي؟
بالتحليل لا يمكن اعتبار التصريحات التركية بكونها عكف لمسارها السياسي تجاه سورية بل كل ما في الأمر أن بعض الاعتبارات الجيوستراتيجية فرضت نفسها على تركيا من جهة ومن جهة أخرى تم فرض بعض الإملاءات الدولية على تركيا وإن أتخذ الفرض شكلاً غير مباشر، ويمكن إيجاز هذين الأمرين بالنقاط الأتية:
1. أطماع تركيا وأهدافها في سورية ككل، وليس مجرد حسابات أمنية ، فحتى الأكراد ورقة رابحة بيد تركيا لأنّ أمننة القضية الكردية وتضخيمها وسيلة لتكفير الأحزاب القومية داخل تركيا خصوصاً حزب الشعب الجمهوري، وضربٌ لقاعدته الشعبية ووسيلة للتدخّل في أراضي الجوار سواء سورية أو العراق، وما اتفاقية (أضنة 1) سوى وسيلة للتدخّل، ولا ننسى الطموحات الجيوستراتيجية لتركيا التي كانت تطمع أن يمر خط الغاز القطري من سورية إليها لتكون بوابة أوربية لمصدر الطاقة، ولكنها حرمت من هذه الميزة.
2. ما يسمونّه التصالح مع المعارضة هو بحقيقة الأمر مصلحة تركية بحتة تخدم الأمن القومي التركي لأن مغبتها بدأت تظهر في انتفاضة المسلحين انفسهم وحرقهم لعلم تركيا ومطالبتها بالخروج ووصفوها بالغدر والتخلي عنهم بعد تصريحات أوغلو، إذ هم خطر على أمن تركيا عسكرياً وسياسياً وامنياً، والمصالحة آمان لتركيا نفسها من الارهابيين.
3. الرضوخ التركي لحالة الاصطفاف الدولي مع سورية بعد الإعلان عن تجهيز الحملة ضد الشمال ومساعي الشروع ببناء منطقة آمنة للاجئين.
4. قام الجيش العربي السوري وحلفائه بإخماد بركان اسماعيل حقي مرة أخرى الذي كان يشغل منصب رئيس أركان الجيش الثاني أثناء أمة التسعينات بين تركيا وسورية حيث كان يرغب بابتلاع الحدود السورية وضمها ومن جملة ما قاله آنذاك:” الخطأ التاريخي الذي ارتكبناه أثناء ترسيم الحدود مع سورية قيامنا بترك الثروات المعدنية وموارد الطاقة داخل الحدود السورية”. ولا يمكن استبعاد هذا الهدف من وراء مساعي تركيا لإقامة منطقة آمنة ، هذا المسعى الذي بدّده الجيش العربي السوري بوقوفه ضد العملية العسكرية في الشمال التي لم تثر عضباً داخلياً فقط بل عالمياً أيضاً.
5. الإصرار بأنّ سيادة سوريه ليست هي المستهدفة بل الإرهابيين والمراد هنا صرف الانتباه من عودة مكاسب ما قبل اتفاقية لوزان في الشام والعراق وغيرها.
6. تلاقي الجغرافية التركية مع السورية يفرض نفسه من حيث العمل على سلامة الحدود وسلامة أراضيها وسلامة الدولة السورية كدولة مجاورة ضد أي خطر انفصالي بعد اليأس من الأسلوب العسكري مع سورية.
7. مخاطر انقلاب الإرهابيين ومن تسميهم تركيا “بالمعارضين” عليها، فتضطر إلى الرضوخ لأي تسوية دولية تضمن أمنها وسلامتها لأنّ أي تقسيم في سورية سينعكس سلباً على تركيا.
8. الثقل الديمغرافي للاجئين السوريين الذين استقبلتهم تركيا بداية الأحداث ليكون ورقة ضغط سياسية بيدها تمكّنها من التدخّل بكل مفاصل مجريات الأحداث في سورية أو حتى على الصعيد العالمي والدولي من قبيل المشاركة في المؤتمرات المتعلّقة بسورية.
9. معارضة الحليف الإيراني وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية تنفيذ تركيا العملية العسكرية في الشمال السوري، والأهم حسم التنافس الجيوستراتيجي لصالح ايران وروسيا في سورية وخسارة التركي لهذه المنافسة.
إن ما سلف جعل التركي يأخذ منحاه السياسي الذي صرّح عنه وزير خارجيتها والذي لم يقابله أي اعتراف أو تصريح سورية رسمي، لأن العودة إلى ترسيم العلاقات لها عدّة محددات أغلب ملفاتها عالقة بدون حل منها رعايته للإرهابيين وتمويلهم وتواجده داخل الأرض السورية والمتاجرة السياسية بقضية اللاجئين دولياً، وبعضها الأخر ترسّخ في اللاشعور الجمعي لقيادة وجيش وشعب سورية التي تتخلص بممارسات العدوانية من القتل والتدمير وتدمير البنى التحتية.
وأما سخرية القدر فحديث أخر، فقد أدرك التركي أن الإرهابيين الذين يستخدمهم ورقة ضغط ضد سورية هم ذاتهم ورقةً مؤهلة لحرقه أيضاً، والمظاهرات اثبتت ذلك، فسرعانما خرجوا ليهدئوا الوضع ويطمئنوا أدواتهم بأنهم مازالو على عهدهم القديم لهم، هذا العهد الذي قد يمكن لأي تسوية دولية واسعة النطاق أن تطيح به في الأيام القادمة.
بقلم الدكتور ساعود جمال ساعود