ما تزال سياسة التعامل بالعملة الوطنية بدلاً من الدولار سياسةٌ قديمة تمتد إلى الرئيس الصيني وين جيا باو الذي أبرم سابقاً اتفاقيه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نصّت على استخدام عملتهما الروبل واليووان في المبادرات التجارية، ليعتبر البعض هذه الخطوة بداية إعلان حرب ضد الدولار الامريكي، ولكن التفوق والاستبداد الاقتصادي الأمريكي جعلها تستخدم الاقتصاد كورقه ضغط سياسية لتدمير ومحاربة من تضعه في خانة الأعداء والمنافسين لها.
لم يكن الامريكيين بوارد توقع مناهضه سيطرة الدولار حيث لعبت المتغيّرات الدولية والإقليمية الأخيرة دور المفعل لما عملت عليه الصين منذ عام 2016م، العام الذي نجحت فيه الصين بعد مفاوضات مع صندوق النقد الدولي بجعل عملتها المحلية اليوان واحدة من العملات الدولية القابلة لتكون أحد مكونات الاحتياطيات من النقد الأجنبي للدول، هذه الخطوة التي مهّدت للعملة الصينية الحضور في النظام النقدي والمالي العالمي، إستناداً إلى الإنجازات الصينية في مجال التجارة الدولية، وتقديم القروض للدول النامية والأقل نمواً، كما تنافس أميركا وأوروبا في ما يتعلّق بإنتاج التكنولوجياً، لذا كان عام 2016م عام اعتماد الصين كعملة مقاصة بمعنى أن الدول تستطيع اقتنائها واعتمادها في تبادلاتها التجارية كأحد العملات الأجنبية وجزء من الاحتياطات النقدية، وهذا ما دفع بالصين لإنشاء مراكز مقاصّة في قطر والإمارات العربية المتحدة بالخليج العربي وبعض الدول الأسيوية والأوربية، علاوة على تعهد البنك المركزي الصيني بتوفير اليوان للدول الطالبة له، علماً أن اليوان يأتي بالمرتبة الرابعة بعد الدولار الأمريكي واليورو والين الياباني بنسبة تصل إلى 2،8% من أجمالي احتياطات النقد الأجنبي بالبنوك المركزية للدول المختلفة في الوقت الراهن، والنقطة الهامّة هنا إنّ اعتماد اليوان كعمله مقاصة يندرج ضمن إطار المنافسة مع الأمريكي لقيادة الاقتصاد العالمي وإنهاء الاستبداد الأمريكي بقيادته، علماً أنّ هنالك دولاً أخرى أقدمت على هذه الخطوة قبل الصين بدليل العملات الأخرى كالين الياباني والجنيه الاسترليني والدولار الكندي.
وبالعودة إلى المتغيّرات الدولية والإقليمية الأخيرة التي أدّت دور المفعل لما عملت عليه الصين منذ عام 2016م، فقد جاءت مفرزات حرب الناتو-أوكران ضد روسيا، إيجابية أكثر من كونها سلبيتها، فرغم أنّها دفعت باتجاه فرض المزيد من العقوبات سواء على روسيا أو ايران بسبب ملفها نووي من جهة أو الصين تحت زريعه تايوان، وما تم تلفيقه من تهم تخفي مخاوفهم من النمو الصيني اقتصادياً إلى أن هذه المتغيرات دفعت المحور الاقتصادي المتضرر من السياسات الاقتصادية الأمريكية الني تمثّلت بالعقوبات الاقتصادية إلى اتخاذ اجراءات مقاومة كان أحدها ترسيخ سياسية التعامل بالعملة الوطنية، ورفض الدولار بالاستناد الى ميزاتها الجيوسياسية وتنوع مواردها وحاجة دول العالم لها واتساع سلسله الموردين والمصدرين في خضم علاقاتهم التجارية مع الصين ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم، إضافة إلى المصداقية التي تتجلى بدعم الصين لسيرتها الاقتصادية بنهج سياسي مع تدل القائم على احترام الأمن والسلم الدوليين، وتأكيد استقلال الدول وسيادتها وعدم التدخّل بشؤونها الداخلية الأمر الذي يبعث الطمأنينة لدى شركائهم.
اليوم التبادلات التجارية بالعملات الوطنية تجاوزت السلعة التقليدية لتركّز بشكلٍ رئيسي على النفط ومشتقاته لكونها قيمة سياسية واقتصادية وعسكرية بالوقت ذاته بيد المتحكمين بها، ولقد اثبتت حرب الناتو- أوكران ضد روسيا مصداقيه هذا الكلام.
وبالنسبة لمنعكسات التبادلات التجارية بالعملات الوطنية على الدولار الأمريكي، فانّ رد وقف التعامل بين روسيا والصين التي تحتاج للنفط والغاز الروسي لدعم نمو الاقتصادي المتزايد يتسبب بخساره حوالي 500 مليون دولار أمريكي سنوياً في سوق المبادلات التجارية، والجميل بالأمر أنّه مع زيادة عدد الدول التي تتعامل بالعملة الوطنية مع الصين وروسيا، ومع التراكم الزمني سوف يؤدّي ذلك إلى تزايد الخسائر للدولار، ولكن هل ستصمت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها عن هذه الخسائر؟ بالتأكيد لديهم طرق بديلة لتلافي الخسائر التي قد يتسبب بها تقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي في المستقبل البعيد، وهنا مسألة هامة تطرح باستمرار حول مخاطر الارتباط بالعملة المهددة بالانهيار، والرد على هذا الكلام يكون بالقول إنّ مجرد القول “مهدد للانهيار” ينطوي على مبالغات كبيرة، وبعيد عن الواقع لأنّ أسعار النفط والغاز والمعادن الثمينة مقومة بالدولار في الأسواق العالمية لذا إن تأثير ذلك على أسواق النظام المالي العالمي سيبقى لفترة طويلة دون تأثّر، وأما حركة دعم التبادل بالعملات الوطنية فهي مفيدة للدول ذاتها التي تتعامل بهذا المبدأ لكي لا تنهار عملتها أمام القطع الأجنبي، وفي أسوا الحالات سيكون الاستيراد والتصدير من الأطراف بعملاتهم الوطنية وبما يعزز قيمه العملة الوطنية ويمنع اي انهيار داخلي للدول المرتبطة بالدولار كدول الخليج مثلاً.
وفي خضم الاستشهاد ببعض الحالات التطبيقية على التعامل بالعملة المحلية بدل الدولار وسط وسط تزايد قبول اليوان في السوق الدولية مؤخراً ، فقد شهد تاريخ 30/ 3/ 2023م، قالت بورصة شنغهاي للبترول والغاز الطبيعي، في بيانٍ:” إنّ شركتي الصين الوطنية للنفط البحري “كنوك” و”توتال انرجي” الفرنسية، أتمتا من خلال البورصة أولى تعاملات الصين في الغاز الطبيعي المُسال التي جرى تسويتها باليوان” ، المعاملة شملت نحو 65 ألف طن من الغاز الطبيعي المُسال استوردتها “توتال انرجي” الفرنسية من الإمارات قبل تسوية المعاملة مع الشركة الصينية بعملة “اليوان”.
ولقد أعقب أعلان نائب وزير التجارة الصيني غوه تينغتينغ، أنّ بلاده أبرمت مع البرازيل اتفاقية بشأن التجارة الثنائية باليوان الصيني، تهدف إلى توسيع التعاون في قطاعي الأغذية والتعدين ، حيث إنّ تسوية المدفوعات باليوان مع البرازيل تسهّل التجارة بين البلدين بشكلٍ كبير هذه الصفقة ذات البعد السياسي، حيث حملت في طياتها الكثير من المضامين التي تثبت مضي الصين قدماً في خططها لكسر سيطرة الدولار الأمريكي على تبادلاتها التجارية وسعيها لحسم تفوقها الاقتصادي على الساحة التجارية العالمية، الأمر الذي يلقى ترحيباً واسعاً من قبل حلفائها لا سيما روسيا الاتحادية التي صرّح رئيسها فلاديمير بوتين حول تأييد بلاده لاستخدام اليوان الصيني في التجارة بين آسيا ودول أميركا اللاتينية، وهذا ما سينعكس بالمجمل على المكانة الاقتصادية العالمية للصين.
وبالختام رغم التعويل على الصين واقتصادها بكسر الهيمنة الاقتصادية للولايات المتحدة الأمريكية وبالاستناد لدراسة حديثة على موقع صندوق النقد الدولي، فإنه يمكن القول الدولار يستحوذ على 41% من احتياطيات النقد الأجنبي عالمياً، ويمثل نصيب 60% من الديون الدولية ، وحتى يستطيع اليوان مزاحمة الدولار في هذه المساحات، فإنّ الأمر يتطلّب المزيد من المقومات الاقتصادية، وكذلك الأخذ في الاعتبار عامل الوقت الطول نسبياً، لذا يمكن القول بأنّ اعتماد العملة الوطنية لبعض الدول الكبرى المنافسة للصين للأسف، لن يلغي محاولات دول العالم للادخار من القطع الأجنبي بالدولار، حتى هي ذاتها ستدخر من الدولار، رغم أن الأزمة المالية عام 2008م، قد أظهرت أن التسويات المالية الدولية تحتاج إلى عملة أخرى غير الدولار بمطالبة من الصين ودول أوربية أخرى لكن الهيمنة الأمريكية حالت دون ذلك، وما تزال قيم العملة الوطنية مقارنة بسعر صرف الدولار الأمريكي تؤثر على الاقتصاديات العالمية ويجعلها عرضة للتقلبات مما يثبت قوة التأثير السلبي له، وإلا أن يقل تأثيره وهيمنته فإن رهن للمستقبل الطويل وما يرافقه من متغيرات اقتصادية في ظل صعود بعض القوى العالمية المنافسة للولايات المتحدّة الأمريكية.
بقلم الدكتور ساعود جمال ساعود