تستمر ظروف وتداعيات الحرب الإسرائيلية على دول محور المقاومة بتوليد ظواهر لم تألفها العلاقات الدولية من قبل كـظاهرة “شرعنة الأعمال العسكرية العدائية “والتي تبرز بوصفها اسئنافاً تاريخياً للخلط المتعمد بين المقاومة كحق مشروع في القانون الدولي وبين الإرهاب والتعدي على سيادة الدول تماما كما يحدث في الحالة الإسرائيلية.
القصف الإسرائيلي للمقر الدبلوماسي الإيراني بدمشق وانتهاك السيادة الإيرانية باستهداف ضيفها إسماعيل هنية كفيل من وجهة النظر القانونية وبالرد على الخروقات، ولكن تسيس الأمر وأخذه من منظور التحدي وتخويل النفس بالرد الغير شرعي دون سند قانوني هي حالة أقرب للحرب مالم تلقى رادعاً يكفل التقيد بالقانون الدولي واحترام السيادة الإيرانية وهذا مالم تفعل إسرائيل، التي تصدر حربها مع حزب الله بأنه حرب غير مباشرة مع إيران، لتعلو قيم القوة العسكرية ومعايير الدعم الغربي لمنفذي الأجندة الأمريكية بالشرق الأوسط.
الرد الإيراني بما يفوق 200 صاروخ باليستي ألم إسرائيل وكسر صورة تفوقها وغير معادلات الهيمنة ومعه قواعد اشتباك سادت من قبل، سرعان ما تعهد بالرد عليها .. وبعد أسابيع رسم مشهدها: تصريحات عدائية بالرد .. إجتماعات أمنية وعسكرية .. مشاورات مع الأمريكي على طبيعة الأهداف .. تسريبات متعمدة بغرض الحرب النفسية ..جاء الرد الإسرائيلي وسط تحذيرات إيرانية من تجاوز خطوطها الحمراء ومن رد يتناسب وطبيعة الخروقات، وذلك بمشاركة 100 طائرة مقاتلة إسرائيلية واستهداف لـ 20 موقعا جنوب وغربي إيران يرافقها تهويل إعلامي لحجم الضربة وتضخيم للخسائر الإيرانية.
الاستهداف الإسرائيلي عكس المتوقع وضمن حدود وأثار دنيا ، لم يقترب من منشأة إيران النووية والنفطية دلالة تنسيق تام مع واشنطن وخضوع لإملاءاتها، و تسهيلات منها عبر استخدام أجواء قواعدها في العراق ، إستهداف ردت إيران بإسقاط أغلب صواريخه وإصلاح أضراره وتفنيده إعلاميا وتعريته سياسياً ومكافحته دبلوماسيا وعسكرياً، وسط استهتار الرأي العام في كلا الطرفين من حجم الضربة وأثارها، الأمر الذي برره استخباراتيون وعسكريون إسرائيليون بالرغبة بتجنب التصعيد أكثر.
إن تقييم الرد الاسرائيلي أو الضربة الإسرائيلية على ايران يجري في ظل معايير متعدّدة أبرزها: كثافة الصواريخ ونوعيتها والخسائر العسكرية الإيرانية وأضرار البنيه التحتية وانعكاسها على الاقتصاد الإيراني لا سيما سعر النفط، فالضربة الإسرائيلية في ظل الآخذ بهذه المعايير، جاءت في حدود الدنيا غير مؤثره دلالة مصداقية أحد التصريحات الصادرة عن شخصيات استخباراتية وعسكرية إسرائيلية بأن اسرائيل لا تريد التصعيد أكثر مع ايران، ووفقاً لذلك جاءت هذه الضربة المحدودة في إطار عادي جداً ما يعكس تخوفاً اسرائيلياً من حجم أي رد ايراني قادم والخشية من مخاطر توسّع الحرب معها أو الدخول في حرب مباشره أو توجيه ضربه موازية من دول المحور كافة ولا ننسى أن صواريخ الدفاع الجوي السوري التي شهدت استهدافاً في الوقت ذاته قامت بالتصدّي للصواريخ السورية في حين امتنعت دول الجوار التي فتحت أجوائها في المرات السابقة أمام الطيران الإسرائيلي عن اتاحه مجالها الجوي للتوظيف العسكري الإسرائيلي، لتفرض إيران ذاتها بوصفها قوه عسكرية جادة في تعاملها مع التهديدات الإسرائيلية وسعيها الحثيث لفرض واقع جديد في الشرق الاوسط يكبح الممارسات الإسرائيلية ويحبط مشاريعها الكبرى لا سيما الشرق الاوسط الجديد الذي يسعى نتنياهو إلى تحقيقه عبر تقيده الدقيق بخارطة الدم خاصته، والذي يبدو أنها محض حقيقه لا محض أوهام أو تنظير أكاديمي أو سياسي مغرق.
دول الأقاليم وفي ظل تحييد أجوائها عن التوظيف العسكري لخدمة إسرائيل بعد أن خبرت جدية التهديد الإيراني، كان موقفها المندد بالعدوان لافتا محملا بالمضامين إقرار بقوة إيران ورغبة بعدم التصعيد وجر المنطقة لحرب لن تكون دول المنطقة بمنائ عنها.
الرئيس الأمريكي جو بايدن رغم تصريحاتهم بالعلم بتفاصيل الضربة الإسرائيلية إلا أنه عاد للتصريح أن الهجمات الإسرائيلية استهدفت مواقع عسكريه فقط معرباً عن أمله أن (تكون النهاية) داعياً إيران لعدم الرد ووقف الردود التصعيدية في المنطقة التي أرسل لها اثناء الضربة سربا من مقاتلات اف 16 الامر الذي له دلالات تنم عن عدم الرغبة بالتصعيد أكثر مع إيران وما يتبعه من الدخول بدائرة الرد والرد المضاد التي يمكن أن تتوسع إلى حرب إقليميه وهذا احتمال وارد.
بالمقابل السيناريو الامريكي جاهز وفق تصريحات مسؤوليها فقد اعلنتها صراحة في حال اختيار إيران الرد، فإن واشنطن ستدافع عن اسرائيل وتدعمها ولكن يبدو أن هذا لن يحصل فإيران وفق توقعاتنا لن ترد تبعا لحساباتها الاستراتيجية ومنها:
اولاً: تهدئة التوتر في الشرق الأوسط وهو رغبه إيرانية وضرورة أمريكية إسرائيلية لاستدامه امنهم.
ثانياً: إيران استهدفت مواقع عسكرية واستخباراتية وحساسة ديموغرافيا ما خلق مخاوف لدى اسرائيل بشأن أي رد ايراني قادم، لذا اضطرت إلى معايرة ردهم تجاه إيران مجبره لا مخيره.
ثالثاً: الشرق بين حجم التأثير والخسائر بين ضربه إيران واسرائيل يظهر إيران بصورة المنتصر والرابح والمكافئ الاقليمي أي أن هناك معادلة جديده فرضتها إيران بالمنطقة.
اليوم تبدو إيران بمنظر الناجحة بالردع، وفرض ذاتها كقوة إقليمية ترأس دول محور المقاومة رغم استقلاليه قرار كل منها، ما يعني أن هناك ضغطاً أمريكيا أو قرارا خفيا يحاك بأروقه الظل بشأن مستقبل الحرب على غزه ولبنان قد يكون الوقف لأطلاق النار أحد خباياه.
إذاً هي مؤشرات تلوح في الأفق على ابتعاد شبح الحرب الإقليمية منها تجنب التصعيد مع إيران يردفها التلويح بمقربة انتهاء الاجتياح البري للجنوب اللبناني ،وأحاديث إسرائيل عن تحقيق أهدافها بعد تصفية قادة المقاومة، وتصريحات واشنطن بخفض سقف التصعيد مع إيران، مؤشرات توحي بترسيخ معادلات الردع وبروز إيران والمحور كمكافئ أقليمي يعادل اسرائيل على الساحة الأقليم، وسط تعمق إنقسام العالمي بقيادة الصين وروسيا ينذر بإنفلات الأوضاع وإنقلابها على أمريكا وإسرائيل في حال استمرت بحربها، لتبدو هذه الأسباب بمثابة ضوابط وروادع تمنع الإنحدار نحو المزيد من الدم والبارد واغتصاب الجغرافيا.
الدكتور ساعود جمال ساعود