توطئة:
تدور الكثير من الشبهات حول الحرب الإسرائيلية ضد الشعب والجغرافيا والايديولوجيا في غزه توحي بأن هذه الحرب كان مخطط لها من قبل، ولكن على الطرف الفلسطيني نجد تأكيدات تثبت أن عملية طوفان الاقصى وما أعقبها من حربٍ إسرائيلية دمرت البشر والحجر، كانت البداية فيها فلسطينية القرار والمنشأ وبشكل مستقل عن بقية أطراف دول محور المقاومة، وهذا ما جاء على لسان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله حين أكد بأنهم لم يكونوا على علم بقرار حماس ببدء عمليتها ضد الاسرائيليين في قطاع غزه، وما يدعونا لهذا الكلام “ظاهره الكسب الاستباقية السياسي”، فعلى الرغم أن الحرب الإسرائيلية لغاية الآن لم تنتهي وتشهد كافّة أنواع العمليات العسكرية المخلّة بالأمن والسلم الدوليين والمخالفة لقوانينها وأعرافها بما في ذلك المجازر بحق الشعب الفلسطيني بشرائحه كافه سواء أطفال ونساء وشيوخ دونما تفريق بين المدنيين من شعب غزه وبين عناصر حماس ومناطق تواجدها وصولاً إلى قصف البنى التحتية بشكلٍ مركّز طال المراكز الصحية، ونجد ذلك من العمليات التي ما تزال مستمرة، والمفارقة هنا أنه منذ مرحله البدايات والأحاديث لدى الأوساط الإسرائيلية المعادية تنطلق حول مرحلة ما بعد الحرب، هذا الأمر الذي شاع أيضاً في الأوساط الأمريكية البحثية والسياسية وهذا ما نسميه “الاستثمار الاستباقي السياسي”، الذي أوحى بأن هذه الحرب كان مخطط لها أن تأخذ هذا الزخم من العنف والتدمير من جهة والصدى الإقليمي والدولي من جهة أخرى، وحتى إن لم يكن كذلك بما أن قرار البدء فلسطيني، فالممكن استنباطه من الخطوات الإسرائيلية مع حلفائها أن الاستفزازات التي سبقت 7 أكتوبر، كان المراد منها إجبار حماس التي تحكم القطاع على القيام بأي تحرّك من شأنه أن يمنح العدو الإسرائيلي فرصة الرد الدموي هذه السمة التي كسرت الفعل الإسرائيلي الذي يأخذ ثوب الرد على خطوات حماس التي جاءت على المستوى العسكري والأمني والتكتيك بما يخالف المواجهات السابقة مع جنود الكيان المحتل من حيث كيفية الاختراق العسكري براً وبحراً وجواً واقتحام بؤر أمنيه واستخباراتية خطيره للعدو، إضافة إلى تعرية جيش المحتل وأسر ما يفوق عن الـ 250 جندي واخذهم كأسرى، وما إلى هنالك من أحداث شكّلت عنصر الصدمة والمفاجأة لدى الكيان واستحقت من وجهه نظر العقلية العسكرية والأمنية الإسرائيلية عمليةً عسكريةً أقل ما توصف بأنها لا تبقي ولا تزر لينتج لدينا تصوّر مفاده أن الكلام في المراحل المبكرة من قِبل الاسرائيليين وداعميهم عن شاكلة الحل بعد طوفان الاقصى أو بعد إيقاف الحرب وشروطه وشاكلة الحكم في غزة، وجعل هذه الأمور من المحدّدات الهامّة لإيقاف الحرب ضد غزة أو ما يسمّوه بخطط السلام الإقليمي يجعلنا مضطرين لأجراء مراجعه لتلك الخطط خصوصاً خطة وزير الدفاع الإسرائيلي التي عرفت “بخطة اليوم التالي”، والخطة الأمريكية لمستقبل غزه من حيث مضمونها، وما يمكن أن نبني عليها من رؤى وتحليلات واستقراءات مستقبليه.
أولاً: مناقشة خطة وزير الدفاع الإسرائيلي حول مستقبل الحل السياسي في غزة:
كشف وزير الدفاع الاسرائيلي يوآف غالنت إنطلاقاً من مركزه ودوره الحساس عن نظرته لسبيل تحقيق الأمن الإسرائيلي بما يضمن إزاله التهديدات التي تؤّثر على وجود الكيان الاسرائيلي واستمراره وذلك وفق التصوّر الذي اقترحه في هذا الصدد، حيث كشّف عن خطته التي حمّلت مسمّى خطط اليوم التالي، والتي نصّت على أربع خطوات رئيسية يجب العمل عليها من منظوره لتؤمن بذلك وضع آمن مستقبلاً في غزّه لا يحمل التهديدات المشابهة كما هو الواقع الحالي في ظل عمليه طوفان الاقصى ومن جملة ما نصّت عليه هذه الخطة إبعاد حماس كلياً عن حكم غزه واحتفاظ “إسرائيل” بالسيطرة الأمنية الكاملة على القطاع، وألا يقيم مدنيون اسرائيليون في المنطقة وتولي قوات متعددة الجنسية بقياده الولايات المتحدة الأمريكية وشركائها الإقليميين مهمّه إعادة الأعمار في غزه، ويؤدّي الجانب الفلسطيني الرسمي دوراً محدوداً إضافة إلى محدودية الدور الرسمي الفلسطيني، فقد اشترطوا أيضاً ألا تكون هنالك اية أعمال عدائية أو تهديدات لإسرائيل، مما يعني أن هذه المهمّة ستكون بالاشتراك مع السلطة الفلسطينية المزمع انشائها مستقبلاً.
عكست هذه الخطة التصوّر المستقبلي لشريحة واسعة من العسكريين والأمنيين الأسرائيليين رغم الأخبار المنتشرة أن نتنياهو لم يتبنّى هذه الخطة، ورغم أن مجلس الوزراء الإسرائيلي لم يناقشها أو يتبناها ورغم ذلك، فإن هذه الخطة قد عبّرت عن الرغبات الأمنية والسياسية الحقيقية تجاه ما يحدث في غزه ووضعت تصوّرها المستقبلي لما بعد الحرب.
وإنّ القيمة الخطيرة لبنود الخطة تكمن بكونها السبيل والمحدّدات التي يتوقف عليها الوصول الإسرائيلي إلى الإحساس بالأمن الوجودي مستقبلاً، وبالتالي التوقّف في الوقت الراهن عن حربها ولئن اعتمدنا دخول الجانب الاسرائيلي في مفاوضات مستقبلية أو في حال إذعانها لضغوط خارجية، فإنه لابد أن شروطاً مستوحاه من بنود الخطة مثل انسحاب حماس كلياً من غزّه والسيطرة الأمنية على القطاع، ستبرز بوصفها شروطاً ومستلزمات لأي خيار سياسي تقدم عليه مع الإشارة أنه لا يعتد بالمطلق بما يشاع إعلامياً عن عدم تعارض رغبات “إسرائيل” ورغبات حلفائها، اذ هي متطابقة وبالتالي أي تسوية مستقبلية تحت أي مسمّى من قبيل “سلام إقليمي” وغيره سيتوقف نجاحها على نفاذ الإرادة الإسرائيلية، وتحقيق مطالبها التي بدورها ستكون عرضة لظروف داخلية وخارجية تحدّد مدى نجاحها وفيما يخص مضمون الخطة فإن المقدرة الإسرائيلية على إبعاد حماس عن حكم غزه من الأمور البالغة الصعوبة لتوقّفها على عدّة أمور منها الاستمرار أو التوقّف عن الأعمال العسكرية للمقاومة في الوقت الراهن في غزه، وكذلك التغيير في النهج السياسي لحماس بما فيه قرار المقاومة المسلّحة، إضافة إلى تحقيق المطالب السياسية الفلسطينية، والتي يبدو أنها صعبه جداً وكذلك التوازنات الإقليمية في حال خضعت حماس لتأثيرين: إما عقائدي فتتأثر بقرارات دول الخليج لاسيما قطر وأما سياسية فتتأثر بالمحور الذي تنتمي إليه حماس محور المقاومة ضد الاحتلال الذي قد يتكفل بدعمها بالمزيد من مستلزمات الصمود، وهذا الاحتمال وارد ولا يمكن تجاهله ويبقى احتمال اتخاذ حماس قرار بوقف الأعمال العسكرية أمراً وارداً تحت تأثير نقص العتاد ودرجة تطوّره التي لا تقارن بعتاد الكيان المعادي ولكن هنا ليس بالضرورة ولا اعتقد أننا سنشهد إنسحاباً لحماس من قطاع غزه مستقبلاً تحت تأثير الضغوطات التي ذهب اليها وزير الدفاع الإسرائيلي في خطته، ومثل هذه الخطة في الحقيقة لا تعكس وجهة نظر شخص بقدر ما تعكس وجهة نظر تطلقها مراكز بحوث ودراسات مستقبليه ذات طابع أمني واستخباراتي.
أما البند المتعلّق باحتفاظ الكيان الإسرائيلي بالسيطرة الأمنية على القطاع فهذا هاجس أمني وإمكانية تحققه على أرض الواقع، تعتمد على وجود حماس من عدمه، والغاية منه التأمين على الوجود الأمني للصهاينة دون مهدّدات، وحتى هذا بدوره يعتمد على الإجراءات الإسرائيلية داخل المناطق المحتلة بما فيها غزه ساحة الحدث، وبالنسبة لعدم إقامه الصهاينة في منطقة غزه مستقبلاً، اعتقد أن هذا لن يحظى بالموافقة من قبل اليمين المتطرّف لأن أحد أهم الأهداف المستقبلية للحرب على غزه واخطرها، تتمثل في “تهويد القطاع “، ومن هنا كانت فكرة تهجير السكان في غزة إلى مصر التي عارضت بشدة، وطالبت هي الأخرى بتهجيرهم إلى صحراء النقب، هذا فيما يتعلّق بالترحيل الخارجي، وسبب أخر لرفض اليمين لهذا البند الهجرات إلى جنوب غزّه وما رافقها، ممّا يؤّهل الاستيطان في النصف الأخر من غزه.
وأما بالنسبة لقيام قوى دولية واقليمية بتحمّل تكاليف إعادة الأعمار، فهذا الشرط أو الطلب الذي يتخذ صيغة الأمر سيكون حاضراً في أي تسوية مستقبلية مهما كان أسمها أو شكلها، وبالنسبة للجانب الفلسطيني الرسمي ومنحه دور محدود، فالدور الرسمي الفلسطيني غير فاعل بطبيعة الحال في الوقت الحاضر، ولن يكون فاعل في المستقبل، لأنّه يخضع لتأثيرات داخلية واقليمية ودولية تحكم عليه بالوجود غير الفاعل، وهناك نقطة هامة أن “إسرائيل” بموجب الخطة تربط منح الجهات الرسمية دوراً بعدم تعرضها للاعتداءات تهدّد أمنها، الأمر الذي يفسّر التعهد بتقديم مساعدات أمنيه للسلطة الفلسطينية، ولكن بالتأكيد ستكون محدودية الفاعلية ومقيّدة الدور.
بالنتيجة إن خطة اليوم التالي ذات طبيعة عسكرية وضعت بنودها على أساس ما سوف يتمخض عن الصراع الدائرة على أرض الواقع، حيث اوصت الخطة إلى أن يأتي توقيت تنفيذها، يجب الاستمرار بالعمليات العسكرية خصوصاً في شمال غزه سواء هجمات جوية أو برية والاستمرار بضرب حماس وقياداتها وتحرير الرهائن الاسرائيليين وأن السلام من وجهه نظر غالانت يتم تحت تأثير الهزيمة العسكرية لحماس في غزه وبناء على استعاده “إسرائيل” لتوازناتها مع تحميل الشركاء الدوليين والاقليميين تكاليف ما خربته الحرب، ويعكس تصوراً مفاده وعدم الرضوخ للحل السياسي مستقبلاً، وتفضيل الخيار العسكري ، وبالتالي لن تتوقف الحرب مستقبلاً إلا بناء على ضمانات أمنيه “لإسرائيل” تضمن لها تحقيق حاجاتها الأمنية التي تسببت بها حركه حماس الأخيرة وما رافقها من مفاجأة أمنيه وعسكرية وهذا ما جعل بنيامين نتنياهو يؤكّد أنّه على الجيش الإسرائيلي أن يقضي على حماس قبل الشروع في تنفيذ خطط ما بعد الحرب، ولو عدنا إلى بنود الخطة سنجد أنّها تتوقّف على وجود حماس من عدمه ما يجعل هذا المعطى شرطاّ اساسياّ لأي تحرّك اسرائيلي مستقبلاً بخصوص الوضع في غزه بما في ذلك كيفية إيقاف الصراع الدائرة حالياً أو أشكال تسويته مهما كانت المسميات.
ثالثاً: مضمون الرؤية الأمريكية حول سلام ما بعد الحرب:
سارعت الولايات المتحدة في ظل استمرار زخم الحرب والدمار مدعوماً منها وبأدواتها العسكرية إلى الكشف عما سمتّه خطة إدارة الرئيس الأمريكي بايدن لما بعد الحرب في قطاع غزّه دون توضيح الافتراضات التي انطلقت منها في وضع هذه الخطط وكأنّهم بذلك يكشفون عن تخطيط مسبق أو استثمار سياسي صرف للحدث لتحقيق مصالح مشتركه مع “إسرائيل” في فلسطين عامة.
نشرت صحيفة بولتيكو الأمريكية في في 5/12/2023 أن مسؤولين في البيت الأبيض ووزارة الخارجية ووكالات اخرى بقياده منسق البيت الأبيض الأمريكي، قد صاغوا خطة أمريكية تشمل ما يلي:
- الحاجة إلى قوة دولية لتحقيق الاستقرار مباشره بعد توقّف القتال.
- تولي سلطة فلسطينية متجدّدة الحكم حسب وصفهم على المدى الطويل.
- زيادة مساعدات واشنطن الأمنية للسلطة الفلسطينية.
- كشف بايدن ووزير خارجيتهعن رغبتهم بأنشاء هيكل أمنى فلسطيني في غزه بعد الصراع.
إن مضمون الخطة يقضي بأن الولايات المتحدة ستقوم في حال اتفقت الإدارة القادمة مع التوجهات السياسية لإدارة بايدن بتقديم الدعم المتعدّد الأوجه “للسلطة الفلسطينية المزمع انشائها” في المستقبل باعتبارها واجهه أمريكية في الداخل الفلسطيني وأداه لهم علماً أنّه تاريخياً لم تكن السلطة الفلسطينية على علاقة وديه مع حركة حماس التي حكمت القطاع منذ عام 2005 أي أن السلطة المعاد تنشيطها مستقبلاً ستكون بشكلٍ أو بأخر أداه مناوئة لحماس.
وفيما يتعلق بالحاجة إلى قوة دولية تتولّى الأمن والأستقرار في غزه بعد إنهاء طوفان الأقصى فإن هذا البند كما أشرنا أثناء دراسة “خطة اليوم التالي” متفق عليه في سائر المفاوضات أو التسويات ما يعني أننا سنكون أمام ظاهره تدويل القطاع واستقدام قوات حفظ سلام دولية في غزه، ما يخفي مصلحة أمريكية حقيقيه في تواجدها على أرض فلسطين عبر التخطيط لمنح المزيد من الحماية الأمنية للكيان المحتل، وهذا سيكون سبباً في في حرمان غزه من خصوصيتها الفلسطينية، وسوف يتم تصدير المشهد السياسي فيها على أنها ساحة صراع غير أمنه، مما يعني أن غزه ما بعد الطوفان ليست كما قبله.
وفي الحقيقة كان الموقف الأمريكي وما زال قائماً على وجهه نظر بايدن التي تفيد باستمرار تقديم الدعم الأمريكي “لإسرائيل” بحربها ضد غزه بما فيه المزيد من الموارد العسكرية، ومما قاله بايدن بهذا الشأن:” أن واشنطن تقف إلى جانب “إسرائيل” وتدعمها ومستعده لتلبيه احتياجاتها اللازمة للدفاع عن نفسها، وهذا ما يمكن اعتباره نهجاً سياسياً امريكياً ثابتاً ولا نتوقع أنه سيتغير مستقبلاً.
بخصوص ما ورد في الخطة الأمريكية فقد حدّد شاكلة الحكم الذي ستكون عليه غزه مستقبلاً في فترة ما بعد الطوفان بما في ذلك ما حدّده بايدن أن خيار “حل الدولتين” هو خيار الأمريكيين الذي لا تراجع عنه، الأمر الذي لاقى الرفض من قبل خالد مشعل رئيس حركة حماس وعبّر قائلاً:” إن حركة حماس والشعب الفلسطيني بعد طوفان الاقصى هدفهم تحرير الفلسطيني من البحر إلى النهر ومن رأس الناقورة إلى أم الرشراش والمهم أن خيار حل الدولتين سيكون موضع خلاف مستقبلي قد يعرقل التوصّل إلى أي تسوية للصراع مستقبلاً.
وبخصوص ما يدور حول ايقاف إطلاق النار في غزه من وجهه النظر السياسية الأمريكية فنعيد التذكير أن أمريكا وزعّت مشروع قرار على مجلس الأمن الدولي الذي توقف على يد الفيتو الصيني يدعو إلى وقف فور لأطلاق النار مرتبط بالأفراج عن الرهائن الإسرائيليين في غزه، حيث جعلوا من إطلاق سراح الرهائن شرطاً وسبباً لوقف إطلاق النار، وهذا الأمر لن يتم مستقبلاً لأنً خطة حماس تقتضي بمبادلة الأسرة الفلسطينيين بالأسرى الاسرائيليين بما في ذلك العسكريين منهم، وتدور سائر الجولات المكوكية لوزير الخارجية الأمريكي إلى الشرق الأوسط بما فيها الزيارة التي تمت بتاريخ 21 مارس 2024 إلى مصر وقبلها قطر حول ما تمناه بلينكن من الدول المؤثرة الإقليمية من دعم خطته لإيقاف النار التي ربط توقفها بأطلاق سراح الأسرى الاسرائيليين
لقد عكس مشروع القرار الأمريكي التصوّر الأمريكي للسلام في غزه، والتخفيف من حدة الصراعات الإنسانية الأمر الذي يدحضه استخدام أمريكا حق النقض الفيتو لرفض قرار يطالب بوقف انساني فوري لأطلاق النار والسبب يعود من وجهه نظرنا إلى الإرادة الأمريكية بأن يكون إيقاف الحرب واطلاق النار بمبادرة منها تضمن لها المصالح الأمنية والسياسية “لإسرائيل” لأن من شأن المبادرات الأخرى ألا تراعي الاعتبارات الأمنية التي تثير مخاوف الأمريكيين، وهذا يعني أن الاعتبارات أو الأهداف الأمنية “لإسرائيل” لم تتحقق لغايه الأن، ما يعني إطالة أمد التوصّل إلى قرار لوقف إطلاق النار، حيث إن المخاوف الأمنية هي ما تدفع “إسرائيل” لضرب رفح التي تجمّع بها 1.4 مليون فلسطيني بأوضاع إنسانيه سيئة، والتي سيؤدّي قصفهم مستقبلاّ إلى قتل الالاف ونزوحهم إلى دول مجاوره مما يعرّض الأمن الاقليمي للخطر، وهذا ما جعلهم يضمّنون مسودّتهم لضرورة ايقاف النار وايصال المساعدات الإنسانية، ويلاحظ أن هذه المسودّة أصرت على تصوير حماس بكونها سبباّ لعدم وصول المساعدات إلى غزه المساعدات التي طالبت بإيصالها للإسرائيليين حصراً، وهنا نستنبط المكانة المحورية لحماس في العقلية السياسية والأمنية الأمريكية، الأمر الذي سيدفعهم مستقبلاً إلى تحريك كبار الشركاء الإقليميين للضغط عليها بما فيها الدول العربية القريبة عقائدياً منها علماً أن المسودة تصوّر الانحياز الأمريكي لصالح “إسرائيل”، وتوضّح كيفيه محاولتهم لأخذ المسار السياسي بما يحقق مصالحها ومعالجة مشاكلها الأمنية الأمر الذي سيلقى رواجاً على الصعيد الإقليمي والدولي في ظل قصور الأطراف الإقليمية العربية والإسلامية عن اتخاذ قرارات واجراءات فاعلة واقعياً من شأنّها جلب نتائج تخدم مصالح الشعب الفلسطيني عموماً وحماس خاصّة، فالأمريكي سيبقى على مقالته في إدانة حركة حماس وتصويرها بأنّها إرهابية.
ثالثاً: حقيقة أهداف “خطة السلام الإقليمي” على المستويين الفلسطيني والعربي:
إن تحديد نطاق السلام الذي يسعى إليه العدو الإسرائيلي من منظورهم بالإقليمي يأخذنا نحو أهداف للسلام المزعوم أوسع نطاقاً من تسوية الصراع في الداخل الفلسطيني، وتبرز أحداث غزّه والتلاعب الإسرائيلي بورقه إطالة أمد الحرب بذات الكثافة النيرانية بوصفه “استثمار سياسي من قبل السائرين بركب مبادرات السلام المزعوم أي الولايات المتحدة الأمريكية التي تعمل بالمطلق لمصلحة حلفائها وذلك لتحقيق أهداف استراتيجية ذات أمد بعيد، وبالشاكلة التي تروق للعدو الإسرائيلي وتضّمن له الأمن واستمرار الوجود والإبقاء على كينونته الجيواستراتيجية بوصفه عمق استراتيجي متقدّم وفاعل للمصالح الأمريكية في منطقه الشرق الأوسط، ومن هذا المنطلق يمكن القول أن المقصود بخطة السلام الإقليمي المطروحة حالياً من وجهه النظر الإسرائيلية هو إيقاف الحرب في غزه بناء على شروط تضمن لها ثالوث( الوجود- والأمن المستدام – والاستمرار بالفاعلية السياسية والعسكرية كما كانت قبل طوفان الأقصى) أي إعادة الكيان إلى حاله ما قبل طوفان الأقصى والخطير، بالأمر أن هدف تحقيق الثالوث الاسرائيلي يتفرّع إلى مستويين: أحدهما على المستوى الفلسطيني والأخر على المستوى العربي عبر جر الأنظمة السياسية لدول المنطقة للتطبيع الكامل والنهائي مع الكيان الإسرائيلي.
أولاً: على المستوى الفلسطيني:
أولاً: تشكّل حركة حماس بنهجها السياسي القائم على اعتماد الكفاح المسلّح كأسلوب لتحرير للتحرير من أهم المخاطر على الأمن الإسرائيلي، وتنظر لها بعين الخوف على وجودها بعد طوفان الاقصى لذلك إن العقلية والمعاملة الأمنية تجاه حماس لن يتم الحياد عنها اسرائيلياً في المستقبل وستواجه حماس المزيد من العمليات العسكرية والأمنية ضدها.
ثانياً: استمرار ضرب مقومات القوة لحركة حماس وأماكن تواجدهم سواء شمال القطاع أو جنوبه ما يعني عدم استبعاد القيام بعمليات أمنيه في الجنوب وتكثيفها تحت دعوى الذرائع الأمنية التي في سيختلقها الكيان الاسرائيلي من آن إلى آخر.
ثالثاً: تكريس العمل بحل الدولتين الذي نادت به إدارة ترامب وبايدن على حد سواء فيما يحسم الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي لصالح وجود شرعي ومستمر أمن “إسرائيل” ، لذا يجب رفض هذا الخيار السياسي.
رابعاً: تعلّق الوضع الأمني والعسكري بوضع بقية المحور الداعم له لاسيما حزب الله على الحدود الشمالية، سيجعل “إسرائيل” من منظور أمني تربط أي تصعيد منها ضد حماس عسكرياً بمزيد من التدابير والتصعيد ضد حزب الله، لذا وجب على حزب الله اتخاذ التدابير الاحترازية لدعم حماس لاسيما في العتاد في الفترة المقبلة والدعم اللوجستي واتباع إجراءات وقائية ضد ضربات متوقّعه بأي وقت باتجاه الجنوب اللبناني وهذا يتم بطبيعة الحال من آن إلى أخر.
خامساً: تسعى “إسرائيل” عبر تركيز الاهتمام العالمي على غزه ومجريات الأحداث فيها سياسياً وعسكرياً لتضخيم التجاذبات والمساومات السياسية سواء بينها وبين حلفائها سياسياً بخصوص الوضع الحالي والمستقبلي لقطاع غزه، وتسعى إلى اختزال القضية الفلسطينية في أحداث غزه واعتبار حلها الصراع الدائر في غزه، وتأمين المستقبل الإسرائيلي حلاً للصراع الاسرائيلي – الفلسطيني ككل، وهذا ليس صحيح فكما أن غزه ليست وحدها هي المحتلة ، فان حماس ليست الوحيدة بين فصائل المقاومة لذا يجب التركيز على الصعيد السياسي من قبل الأطراف المقاومة ذاتها أن صراع “إسرائيل” مع فلسطين هو صراع (شعب وجغرافيا واراده سياسية) مدعومة بقوه عسكرية لن تتوقّف عن التحرّكات التي شهدتها 7 اكتوبر بل سيكون هناك تحرّكات مقاومة أخرى على الصعيد العسكري الخاصّة.
سادساً: تحاول “إسرائيل” وحلفائها خلق طبقه سياسية تضفي عليها الطابع الرسمي تدعمها بالوسائل الكفيلة لبقائها على أن تكون أداة تابعة لها هذا ما يمكن اعتباره تفريغ لنصر طوفان الاقصى وتحايل سياسي وتطويق سياسي بأن معاً لحركة حماس ولشعب الضفة الغربية بشكلٍ عام وحتى بالوقت الراهن لا يمكن التعويل على محمود عباس وحكومته بإحداث إثر فاعل سياسي يعود بالنفع على الشعب الفلسطيني ومطالبه.
سابعاً: التضييق على نطاق دولي على الدول المشكوك بها من قبل “إسرائيل” بوصفها داعمه لحركة حماس لا سيما محور إيران سوريا حزب الله الذي أشار إلى احتمال كون المعركة القادمة ستكون من جنوب لبنان أي أن خيارات الحرب ما زالت مفتوحة.
ثامناً: تطبيق حصار أمني مطبق حيث سيشهد المستقبل الأمني لغزه تشديداً على مداخل ومخارج غزه وأي طرق محتمله لتغذيه حماس التي من الصعب التخلّص منها إلا بآبادة جماعية، الأمر الذي يضع حماس أمام تحدّيات عسكرية وأمنية صعبة، لذا يجب البحث عن طرق بديلة للحصول على الإمداد العسكري لا سيما من البحر وحدود لبنان والاستفادة من مخلفات الأسلحة والذخائر الإسرائيلية في إعادة تصنيعها والتركيز على التقنيات الحديثة لا سيما الطائرات المسيرة، اضافة إلى التخطيط الدقيق والمركز على التعاون مع حلفاء المقاومة.
تاسعاً: ضرب سلاسل استيراد الأسلحة لحركة حماس وهنا يجب الحذر على الصعيد الأمني من أي تحرّكات أو خطط للحصول على الإمدادات من ناحية الحدود المصرية التي قامت بالتعاون مع “إسرائيل” سابقاً بتدبير جزء كبير من البنية التحتية لأنفاق حماس.
عاشراً: ضرب البنية التحتية لحركة حماس حيث تخشى “إسرائيل” من البنية التحتية لحركة حماس عسكرياً، وقد بنت نجاحها في معركة طوفان الأقصى عليها كطريق إمداد ومناوره عسكرية، لذا يجب إقامة المزيد منها كسلاسل توريد عسكري.
ثانياً: الغايات المبطنّة لخطة السلام على الصعيد الاقليمي العربي:
إن مضمون ما يطرحه الجانب الأمريكي والإسرائيلي من خطط حول واقع ومستقبل قطاع غزه خاصّه وفلسطين عامّه يفضح طبيعة هذه الخطط، فالأمريكي لغاية الآن أبرع من استخدم وأجاد لسياسة العصا والجزرة، فالجميع يعلم أن الأمريكي قادر على الضغط على “إسرائيل” واقناعها واجبارها بوقف إطلاق النار، ولكنها لا تفعل ذلك وتصرّ على التظاهر بالمضي قدماّ بالعملية السياسية التي تجعل من وقف إطلاق النار متوقفاّ على شروط تحدّد من وجهه نظرهم الشاكلة التي يريدونها لمستقبل العلاقة بين الاسرائيليين من جهة والفلسطينيين من جهة اخرى
إنّما يفهم من التصرّف الأمريكي هو جعل غزه وايقاف إطلاق النار فيها؛ بوابة لفرض شروطها السياسية وإلا فالبديل في حال عدم تحقيقها يكمن باستمرار الوضع على ما هو عليه ما يمثّل ضغطاً وإحراجاً للشارع العربي والإسلامي، ومن هنا كانت خطة إحضار كوكبة من الضاغطين الإقليميين أو الفاعلين، حيث مهمتهم الضغط على حماس بما يناسب الاتجاه الإسرائيلي والأمريكي ولا جديد في مطالب وقف إطلاق النار، وفتح باب المساعدات الإنسانية لكن الخطير تحديد مسار سياسي لشكل الحل المستقبل إلى الصراع الذي يتمثّل بحل الدولتين.
ولدى المراجعة نذكر ما كتبه بأيدن على حسابه عبر منصة اكس حين قال”: حل الدولتين هو السبيل الوحيد لضمان الأمن الطويل الآمد للشعبين الاسرائيلي والفلسطيني، ومن أجل التأكّد أن الفلسطينيين والاسرائيليون يعيشون على قدم المساواة من الحرية والكرامة مضيفاً:” اننا لن نتخلى على العمل لتحقيق هذا الهدف”، مما يعني أن ما يسمى بخطط “سلام الإقليمي” هي بالفعل تأمين سلامة واستمرار الكيان الإسرائيلي من وجهه النظر الأمريكية، ولكن لهذا الخيار مغباته الوخيمة على واقع ومستقبل فلسطين وأسباب القناعة الأمريكية بنجاعة هذا الحل تكمن بالقناعة الراسخة بأهمية وجود واستمرار “إسرائيل” بالعمق العربي والإسلامي في منطقه الشرق الأوسط وأهميه “إسرائيل” ودوامها للمصالح الجيوستراتيجيه الأمريكية راهناً ومستقبلاً والقناعة بأنها لن تستطيع تصفيه القضية الفلسطينية ولا إنهاء الوجود لفلسطيني على الأراضي الفلسطينية والقناعة بأن المقاومة لإسرائيل لن تتوقف بل ستستمر بأشكال وفترات متعدّدة راهناً ومستقبلاً والقناعة بأن محور المناهضة للأمريكي لن يترك التوازنات الداخلية في فلسطين دون تدخل لصالح الطرف المقاوم وما يترتب على ذلك من دعم وتسليح سياسي وعسكري.
هذه الأسباب تجعل الأمريكي – من باب الواقعية والاقرار بالواقع- ينحو باتجاه إقامه الدولتين انطلاقاً من قناعه راسخه أن نتيجة الصراع “لا غالب ولا مغلوب”، ورغم تفوق “إسرائيل” ، وجاء طوفان الأقصى ليكرس هذه النتيجة التي ستجعل الوجود الإسرائيلي شرعياً وقانونياً وقابلاً للدوام والاستمرار لتأتي المرحلة الأخرى وهي “التطبيع مع الكيان اقليمياً”.
ويبدو لنا أن الهدف من وضع شروط حل الدولتين بدعم أمريكي كشرط لوقف النزيف الدموي المراد منه الضغط على الدول العربية للتطبيع مع “إسرائيل” ، وهذا الهدف الجوهري الذي ستشهده المنطقة العربية في قادم الأيام بالنسبة للدول العربية والإسلامية التي لم تدخل اتفاقيات ابراهام كالسعودية لغاية الأن أو على الأقل لم تعلن تطبيعها مع “إسرائيل”.
إن الشائع منذ بداية طوفان الأقصى أن هذه العملية وما كشفته من ضعف “إسرائيل” أوقفت عمليات التطبيع خصوصاً مع السعودية ذات الوزن الإقليمي والدولي، ولكن هذا يبدو لنا اعتقاد خاطئ بفعل أمرين هما:
أولاً: حل الدولتين: إن أهداف خطة السلام الدولية الأمريكية حول الوضع في غزة والمتمثّلة بتكريس وتطبيق حل الدولتين، سيكون كفيلاً من وجهه نظرهم لإحلال الاستقرار في غزه وفلسطين عموماً بالاستفادة من تراجع قدرة حماس على الاستقرار بالصمود أمام الضربات الإسرائيلية على الأمد الطويل.
ثانياً: التصعيد العسكري: إن غاية التصعيد العسكري داخل فلسطين هو إعادة التوازن لإسرائيل على الصعيد الداخلي خصوصاً أمام المستوطنين والجيش الذين فقدوا الثقة بقيادتهم. وعلى الصعيد العربي تكمن غاية التصعيد عبر إثبات قوه “إسرائيل” وكمية الدعم الدولي الهائل الذي تحظى به ولا سيما من قبل القوة الأكبر عالميأ في ظل دعم خجول ومحدود من قبل المؤيدين لحماس لا يرقى لمجابه الدعم حلفاء الأمريكي، بالإضافة إلى عامل إجبار كبار الدول الإقليمية العربية والإسلامية على الجلوس على طاوله المفاوضات مع ممثل “إسرائيل” حليفها الأمريكي لإيجاد حل أو سبيل لإيقاف الحرب الدائرة الحالية في ظل تفوق عسكري اسرائيلي ورجحان الكفة لصالحها مع استمرار الخسائر البشرية والمادية لشعب فلسطين بشكل ينذر ويرسل رساله إلى سائر القوى المناهضة لإسرائيل لا سيما إن الكثير من دول محور المقاومة في حالة أمنيه وسياسية واقتصادية صعبة جرّاء الاستهداف الإسرائيلي لها الأمر الذي يجعل العرب مضطرين للجلوس على طاولة المفاوضات مع “إسرائيل” والتطبيع معها جراء قناعتهم بعدم جدوى بقائهم خارج دائرة التطبيع مع “إسرائيل” لما له من مكاسب سياسية وامنية.
وهنا نعود إلى التطبيع بين “إسرائيل” والسعودية ذات الثقل الإسلامي والإقليمي والاقتصادي بالنسبة لإسرائيل إن وجودها بكل اجتماع لتسويه الصراع هو قرار اسرائيلي بأهميتها، ولكن بالمقابل يعبّر عن رضا سياسي من قبل السعودية ، ما يمنح “إسرائيل” شعوراً بالرضا وايذاء ما يعتبروه ” بالضرورة الاستراتيجية” لإحلال السلام الاقليمي الذي يعتبر التطبيع مع الدول الإقليمية والفاعلة على الساحة العربية أحد أهم مرتكزاته، لذا نعتقد أن استمرار “إسرائيل” بحربها والدعم الأمريكي لها يساهم مستقبلاً بإجبار السعودية على التطبيع مع “إسرائيل” علماً اننا لا نعتقد أن السعودية تشكّل خطراً على المصالح الجيوستراتيجيه ولا على الوجود الاسرائيلي في منطقه الشرق الأوسط خصوصاً أن السعودية لم تنحرف كثيراً باتجاه الصين العدو التقليدي لأمريكا وحلفائها بل تحرص على توازن بين الأقطاب الكبرى عالمياً ومن وجهه نظر أخرى إن التطبيع يتخذّ شكل إقامة العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية، وهذا ممكن بين “إسرائيل” والسعودية ولو عبر وسيط هو الأمريكي ذاته الذي يسعى جاهداً لجعل العلاقة مباشره بين السعودية، والعامل الأخطر هنا أن التقارب السعودي من دول محور المقاومة المناهضة لإسرائيل وامريكا ليس بالتقارب الحاسم والعلاقات الدبلوماسية بينهم لا ترقى إلى تحالفات استراتيجية على غرار تلك التي تجمعها مع أمريكا.
رابعاً: موقع الإقليميون العرب في مبادرات السلام الإقليمي: تبعية أم صنع حدث.
إن مضمون الدور العربي أثناء الحرب التي ما تزال دائرة لا يختلف من حيث التأثير والفاعلية عن مضمونه في مرحله ما بعد الطوفان على صعيد الإقدام على حلول جدّيه لصالح الفلسطينيين.
بالعودة إلى الواقع الراهن إن غزه ذات الحدود الموازية لمصر، كانت تنتظر دوراً أكثر فاعليه من القيادة السياسية المصرية، حيث علت المطالب بفتح معبر رفح منذ الأيام الأولى أمام اللاجئين، ولكن التصرّفات السياسية المصرية، أظهرت أن لها حساباتها الاستراتيجية فيما يخص هذا الموضوع خصوصاً مع انتشار الحديث عن تهجير اللاجئين إلى سيناء التي جعلت الرئيس المصري السيسي يجهر برفضه لهذا المقترح ، وذهب إلى اقتراح صحراء النقب بدلاً عن سيناء، حيث صاحب الخشية في التغير الديموغرافي مخاوف أخرى سياسية تتعلّق بالجغرافيا المصرية وأخرى أمنيه لا تخفى تتعلّق بالأمن القومي المصري.
يبدو أن لدى مصر تحفظاتها اتجاه حركة حماس ذاتها التي تنتمي عقائدياً إلى الإخوان المسلمين الذين لديهم قاعدة اجتماعية وسياسية قوية في مصر، لذلك كان هناك مخاوف أمنية حقيقية تجاه فتح الباب على مصراعيه أمام الفلسطينيين وبخصوص فتح المعبر لإدخال المساعدات، فقد تم بالتشاور وباقتراح دولي واقليمي، ولم يكن قراراً مصرياً بالمعنى الصرف، وهو ما يتوقّع من دولة اقليمية ذات وزن عربي إسلامي تؤّدي دور قيادي في منطقه الشرق الاوسط ككل، لذا لا يمكن القول أن مصر كانت صانع حدث بل كانت تابعه في معظم تحرّكاتها السياسية، ويبدو أن القيادة السياسية المصرية لديها حساباتها في التعامل مع الملف الفلسطيني وغزه خصوصاً لتداخل الاعتبارات الدولية والإقليمية في حساباتها الاستراتيجية، فهي لا تريد أن تخرج بما يغضب الأمريكيين والاسرائيليين.
وعلى صعيد المبادرات الدولية من أجل إيقاف إطلاق النار وإدخال المساعدات الإنسانية والتي تمت بغالبها تحت ستار منظمة الأمم المتحدة، فإنّ الموقف المصري كان موافقاً لتلك التوجّهات والمطالب بما فيها الجولات المكوكية لوزير الخارجية الأمريكية وشريكاً فيها، ولكن على المستوى العملي كان التصرّف المصري تحت تأثير تجنّب الضغط الداخلي الشعبي، ومن منطلق الحرص على الدور القيادي الريادي في الإقليم العربي، إضافة إلى التعاطف مع الشعب المصري الفلسطيني والرغبة الحقيقية باستتباب الأمن لما في ذلك من فوائد تعود بالاستقرار على الوضع المصري، ولكن بشكل عام كان الدور المصري بموقع المكمّل لما يطرح من مبادرات اقليمية ودولية مرفقة مع مبادرات غير مؤثّره وفق المأمول.
ولو نظرنا إلى الأمر من منظور مصري لوجدناها مضطرة إلى أخذ التداعيات الأمنية والسياسية والديموغرافية والجغرافية بعين الاعتبار، ولكن يبدو أن إرادتها السياسية لم تؤهلها بعد لقياده حملة اقليمية تكون سبباً في ايقاف ما يواجه الفلسطيني في غزه.
وعلى الصعيد الخليجي فقد كانت دول الخليج حاضرة وبقوة في كل مبادرة تحمي الشعب الفلسطيني بما في ذلك المطروحة دولياً عبر منظمه الأمم المتحدة، ولقد أعلنت تضامنها السياسي والإعلامي على المستوى القيادي الشعبي ايضاً، ولكنها كانت بخصوص المبادرات الدولية بموقع المؤيد أو الرافض حسب الجهة السياسية صاحبه الطرح وحسب المضمون، والمشكلة الخطيرة هنا تكمن أن علاقات دول مجلس التعاون الخليجي مع الولايات المتحدة الأمريكية ممتازة جداٍ، وكذلك بات معروفاٍ حجم التطبيع مع ““اسرائيل”” عبر اتفاقيات ابراهام 2020 ، لذا كان وما زال مستبعداً أن تقدّم هذه الدول على مبادرات أو قرارات من شأنها الإتيان بما يغضب ال”اسرائيل”ي والأمريكي، علماً أن بعضها كقطر مثلاً حاضنه للإخوان المسلمين وتستضيف رئيس حركة حماس، ولكن دعمها له لم يتجاوز الدعم السياسي والإعلامي والمساعدات الإنسانية.
ولا طالما تتحدًث عن تقديم مساعدات فعليه فالواجب ذكره أن الدعم العسكري لشعب غزه كان على يد لبنان ممثلة بحزب الله فقط والعراق وسوريا وإيران، وقد يبدو الحديث عن الدعم العسكري ” أمراً سخيفاً” ولكن ضروري ذكر أسباب عدم تقديمه، وهل هناك احتمال لكسر القاعدة مستقبلاً، حيث تتمثّل الأسباب بما يلي:
اولاً: غالبية هذه الدول تجمعها تحالفات مع الولايات المتحدة الأمريكية ومحاطة بقواعدها العسكرية.
ثانياً: التطبيع على المستوى العربي مع ““اسرائيل”” يتخذ شكلان علني وسري، لذا إن غالبية دول الخليج مطبعه بشكل أو بأخر مع الكيان ال”اسرائيل”ي، وحتى إن كانت تظهر غير ذلك، فالشجب والندب السياسي هما الوسائل السياسية والإعلامية لها، وهذا غير مؤثّر لا بالحاضر ولا بالمستقبل.
ثالثاً: إن معظم هذه الدول مقتنعة ضمناً بعدم جدوى مقاومه الاحتلال الاسرائيلي وداعميه ومن مناصري إقامة علاقات عامة معهم لذلك تميل هذه الدول إلى تقبّل فكرة حل الدولتين وتشجع عليها.
وبالنسبة لدراسة احتمال كسر هذه القاعدة مستقبلاً أي تحوّل الدعم الخليجي للشعب الفلسطيني من الشكلي إلى أشكال أخرى بما فيها العسكرية، فهذا أمر مستبعد كلياً ويتوقّف على عدة أمور:
اولاً: تغيرات النظام الدولي بما في ذلك ظهور أقطاب متعدّدة متكافئة متوازنة بحيث يمكن التحزب مع أحدها ضد الأخرى والاحتماء به، وهذا يحتاج لزمن طويل حتى يتحقق.
ثانياً: تغير الأنظمة السياسية في دول الخليج وقدوم أنظمه تتبنّي القضايا العربية الإسلامية بصدق وهذا مستبعد لأنه يتطلب ثورات شعبية بهذه الدول ضد أنظمتها وتغيير كلي للعقيدة الأيدولوجية ومحتوياتها بما في ذلك النهج السياسي لهذه الدول.
وبالنتيجة إن الحديث عن تطوّر أشكال الدعم المقدّم للشعب الفلسطيني إلى أطوار أخرى من الدعم لا سيما العسكري هو ضرب من الخيال باعتقادنا إن المستقبل القريب يتضمن مزيداً من التحالفات وتطبيع بين الدول العربية التي اكتفت بالشجب والندب والتحرّكات الشكلية وبين الكيان الصهيوني وداعمه الامريكي على حساب القضية الفلسطينية التي ستكلفهم مسارات سياسية.
وبالنسبة للسعودية فقد كان التطبيع بينها وبين ““اسرائيل”” قاب قوسين قبل طوفان الاقصى الذي لولاه لتم استكمال مسار التطبيع، ولكنه تسبب بقدر من الإحراج السياسي أمام الداخل الشعبي وأمام الرأي العام الإقليمي العربي والإسلامي، وأجبر السعودية حسب مراقبون إلى إعادة لعب دورها التقليدي من منطلق مكانتها الإقليمية والإسلامية، وهذا ما حذا بابن سلمان ليضع تسوية الصراع الحالي كشرط لاستكمال التطبيع، وهذا يعني أن المستقبل سيحمل تطبيع سعودي – “اسرائيل”ي حتماً ولان قضية غزه طارئه بالنسبة لهم وعرقلت مسار سياسي يعود عليهم بالنفع الاقتصادي والسياسي والامني.
بالنتيجة لم تشهد الساحة السياسية الإقليمية عربياً مساراً سياسياً فاعلاً يقود لنتائج على أرض الواقع تفيد بأخذ الأوضاع باتجاه وقف اطلاق النار، وادخال المساعدات تحت الضغط العربي والإسلامي بل شاهدنا الدول العربية بغالبها باستثناء دول محور المقاومة أدواراً مكمّله تابعة بغالبها، ولم تكن صانعه حدث إذ أن دورها شكلي سياسياً واعلامياً ومعد للاستثمار السياسي، عكس دول محور المقاومة فقد قدّمت دعم متعدّد الأشكال بما فيه الدعم العسكري، وعلى هذا نتوقع أن تسير دول المحور بدعمها الفعلي في حين سيستمر دور بقيه الدول العربية معتمداً على مخرجات السياسة الدولية بخصوص تسوية الصراع الاسرائيلي- الفلسطيني.
خامساً: خفايا الجولات المكوكية لوزير الخارجية الأمريكية:
أدركت الولايات المتحدة شدة الصدمة التي اصابت الكيان الاسرائيلي والمخاطر التي كان من الممكن أن تنجم عنها من قبيل تدخل باقي دول محور المقاومة لمسانده حماس، إذ رأينا البوارج الأمريكية محمله بالجنود والعتاد منذ الأيام الأولى لعملية طوفان الأقصى مثبتة بذلك التزامها بأمن ““اسرائيل”” ووجودها الذي يشمل حماية للمصالح الأمريكية وتكريساً لنفوذها وعمقاً استراتيجيا لها.
لم يكن الدعم العسكري سيد الموقف فحسب حين أكد بايدن واشنطن مستعدة لتلبية كل الاحتياجات الأمنية لإسرائيل، بل كان الخطان العسكري والسياسي متلازمان، واللذان اثبتا أن الأولوية بالنسبة لأمريكا هو أمن ““اسرائيل”” من حيث تأمين هذا الكيان من المهدّدات الداخلية والخارجية، والعمل على منع تأثيرها على مستقبل وجود الكيان في المنطقة. واذا دققنا في الجولات المكوكية التي مثّلت الجهد الدبلوماسي الأمريكي لحمايه الكيان الاسرائيلي، فيمكن معرفه المعنى الذي يشير له السلام من المنظور الأمريكي والذي يتحدّد بالحفاظ على “أمن “اسرائيل”” من المهدّدات التي تهدّد وجودها وأمنها وعلى أساس هذه الفكرة ارتكزت وسوف ترتكز كافة المبادرات والمشاريع السياسية التي تتم تحت مسمى مبادرات السلام الإقليمي التي تشهدها اليوم المنطقة، والتي تهدف إلى إيجاد حل مستدام للأمن “ووجود “اسرائيل”” داخل فلسطين كمسار أول وخارجها على المستوى الاقليمي المحيط كمسار ثاني مع العمل على تضمين أي مبادرة أو مشروع للرغبات الأمريكية التي تعكس خططها وتصوّرها لشكل الحكم المستقبلة في غزه والحالة التي يجب أن تكون عليها ““اسرائيل””، ومن النادر أن تمر مبادرة أمريكية بدون مكامن خلل تكشف أهدافها.
ففي المبادرة الأخيرة التي طرحت في اجتماع القاهرة وضمّت كبار الدول الإقليمية العربية والإسلامية ممثّله برؤساء وزرائها (مصر والسعودية والأردن وقطر)، بحثت في نقطة جامعة هي عملية السلام من منظورهم ووقف الحرب الاسرائيلية أو حسب تعبيرهم وقف إطلاق النار، وإدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع وناقشوا تصوراً عربياً لخطة سلام إقليمي شامل تبدأ بإنهاء الحرب على قطاع غزه، ومن ثم إطلاق مسار أقليمي يقود إلى اقامه الدولة الفلسطينية مقابل تطبيع عربي واسع النطاق مع ““اسرائيل”” حيث ربطت علاقاتها الطبيعية معها بأنّهاء الحرب وإقامة الدولة الفلسطينية حسب إدعائهم.
ولقد اشترطت الدول العربية التطبيع واسع النطاق بإيقاف الحرب على غزه واقامه الدولة الفلسطينية دون تحديد شاكلة الدولة الفلسطينية التي يريدها العرب، ولقد قالها الأمريكي علناً اتفقنا على تحقيق الأمن والسلام المستدام طويل الآمد في غزه ولن نسمح في دفع الفلسطينيين في غزه إلى النزوح.
إن الاتفاق على وقف إطلاق النار وفق التصريح الأمريكي يعني أن الولايات المتحدة الأمريكية هو من بعدها ““اسرائيل””، قد وافقت على الطلب العربي المتمثّل بإقامه تطبيع واسع النطاق عربي- اسرائيلي مقابل ايقاف الحرب.
وعلى الجانب الاسرائيلي ومن منظور الحسابات الاستراتيجية فإن التطبيع العربي واسع النطاق مقابل موقف الحرب أمر مربح سياسياً وعسكرياً ويحقق للإسرائيليين الأمن المستدام طويل الأمد، وهذا المصطلح الذي استخدمه بلينكن وزير الخارجية الأمريكية، الأمر الذي يوحي بموافقه “إسرائيلية” على الشروط العربية، ولكن وبالعودة إلى وزير الخارجية الأمريكي وتصريحاته بخصوص التصوّر العربي لخطة السلام الشامل، فقد أكد بلينكن أن تحقيق الأمن المستدام طويل الآمد يتطلّب مساراً من أجل حل الدولتين، وضمان الأمن الاسرائيلي، وبالنسبة للأمور الأخرى مثل إرسال المساعدات لقطاع غزه فهي أمور ثانوية ستترتب على الاتفاق الأمني.
والملاحظ في هذا السياق أن التصوّر العربي لخطة السلام الإقليمي لم تناقش حل الدولتين عندما طالبت بالدولة الفلسطينية، ولطالما أنّها اشترطت التطبيع الكامل إقليمياً، فهذا إقرار بشرعية وجود ““اسرائيل”” في الأرض الفلسطينية واعتراف رسمي من الكيان السياسي العربي بإسرائيل “كدولة” وما سوف يترتب على ذلك من إقامه علاقات شاملة على حساب حسم الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي لصالح “اسرائيل” التي نجحت باغتصاب الأرض، وتحت ضغط الحرب على غزه- الورقة السياسية الرابحة- قامت ““اسرائيل”” باستخدام ورقه الحرب على غزه لتحقيق هدفها الأول والأخير ألا وهو التطبيع الشامل مع المحيط العربي ليصبح الرافضين للتطبيع معها معزولين اقليمياً عن وسطهم العربي، وهذا ما سيكسب ““اسرائيل”” قوة وزخم سياسي وعسكري واقتصادي وثقافي مستقبلاً.
ويظهر من جولات وزير الخارجية أن الأولوية لديه تتمثّل (بأمن “اسرائيل” زائد حل الدولتين زائد التطبيع المؤسس على أنقاض حرب غزه)، وهنا نعود إلى حل الدولتين فأننّا نعتقد أن هذا الخيار سيأخذ مساره السياسي على أرض الواقع رغم رفض الشعب الفلسطيني وحركة حماس له الأمر الذي سينجم عنه استمرار المواجهات العسكرية في الفترة القادمة.
ونرجح أن الخيار السياسي للدول العربية التي اجتمعت بمصر يتمثل بالرغبة بالتطبيع مع “اسرائيل” ولكن مقابل ثمن سياسي ضخم بدليل اشتراط السعودية التي لم ترفض التطبيع على لسان محمد بن سلمان، ولكن اشترطت- شكلياً- أن يتم إيجاد حل للحرب على غزه وعلى هذا، فالدول العربية تبحث عن سبب مقنع لشعوبها وحكوماتها للتطبيع مع “اسرائيل” ويبدو انّها قد وجدته.
وعلى هذا الأساس إن المستقبل سيشهد تطبيعاً عربيا اسرائيلياً واسع النطاق في حال تم تنفيذ الثمن السياسي ألا وهو ايقاف الحرب، وهنا نعتقد أن حماس الرافضة لحل الدولتين، وما يتأسس عليه من تطبيع مع “اسرائيل”، من واجبها في حال توفّرت الإمكانية العسكرية الاستمرار بعملياتها العسكرية بما يجعل الكيان في حالة عدم استقرار أمنى والتي لها منعكساتها السياسية التي من شأنها عرقله الحل السياسي الأمريكي أو خطة السلام الاقليمي الأمريكي.
وبالنسبة للنقطة التي أقرها وزير الخارجية الأمريكية حول ضرورة تحقيق أمن “اسرائيل” المستدام طويل الأمد، فانّهم بحاجه للحفاظ على الأمن قصير الامد أولاً، فرغم تفوقهم العسكري وحجم الخراب الذي سببوه، إلا أنهم ليسوا سالمين من الناحية الأمنية في ظل وجود حماس وداعمها من محور المقاومة؛ الذين تتطلب المرحلة المقبلة تدخل قوي منهم وفاعل لصالح دعم مقومات استمرار وصمود حماس لا سيما بالعتاد، ولا يمكن تحقيق أمنهم حالياً إلا بإزالة حماس عسكرياً كلياً وخلق سلطة تابعة تحكم القطاع، ونزول قوات حفظ السلام دولية، والتوسّع في جهاز استخباراتهم بشكل أكبر من السابق والتعاون الأمني مع حلفائها لمعالجة جوانب الاختراق الأمني، واعاده تجنيد شبكات واسعه من العملاء داخل القطاع، وما يخلقه هذا من أعباء اقتصاديه وتكاليف، ولعل جميع ما ذكر ممكن باستثناء القضاء على حماس، فهذه ستبقى الإشكالية الأمنية الخطيرة في وجه “اسرائيل” لذلك نقول:” إن ايقاف الحرب من قبل “اسرائيل” وحلفائها سيكون ايقاف ضد الشعب المدني، ولن يكون تجاه حماس، و ستدفعهم هواجسهم الأمنية تجاهها إلى الاستمرار باستهدافها بما في ذلك ضرب النقاط المشكوك بها في رفح.
العلاقة الجدلية بين خطة السلام الإقليمي وصفقة القرن:
إن الشاكلة التي خطط لها الرئيس الأمريكي دولاند ترامب حول ما سمّاه إنهاء النزاع الفلسطيني- ال اسرائيلي، تظهر بما لا يدع مجالاً للشك أن مبادرات السلام الإقليمي بما تحتوي عليه من خباثة سياسية هي امتداد لخطة “صفقة القرن”، الأمر الذي يثبت بأن الاستفزازات التي دفعت حماس للقيام بطوفان الأقصى كانت مقصودة ومدروسة بعناية، ولكنها أخطأت بتقدير النتائج.
إن المشترك الظاهر بين كلّا من مبادرة السلام وصفقة القرن هي محاولات وضع حل النزاع الفلسطيني الاسرائيلي، ولكن حسب الأسبقية التاريخية، فإنّ صفقة القرن هي الأساس النظري ولعملياتي، لكل ما يجري من تحرّكات وطروحات سياسية على الصعيد الأمريكي حيال ما يجري في غزة.
كانت العواصم العربية التي تشارك اليوم في مبادرات السلام الإقليمي وتتزعمه حاضرة ايضاً في صفقة القرن، حيث تم تطويرها بناء على مشاركات هذه العواصم التي رأت في النظرة الأمريكية ذات قيمة وصوابيه من وجهة نظرهم وتقديراتهم الاستراتيجية.
تضمنّت صفقة القرن إقامة دولة فلسطينية بدون جيش في الضفة الغربية وقطاع غزه وقيام مصر بمنح أرض إضافية للفلسطينيين من أجل إنشاء مطار ومصانع للتبادل التجاري دون السماح للفلسطينيين بالعيش فيها، ومن جملة ما نصّت عليه الخطة القيام بفرض عقوبات على جميع الأطراف الرافضة للصفقة، وكانت “اسرائيل” في ذلك الحين ترفض تطبيق حل الدولتين لعدّة أسباب منها رفض عودة اللاجئين الفلسطينيين ورفض إجلاء المستوطنات الاسرائيلية في الضفة الغربية التي كانت تبلغ 100 مستوطنه.
عرضت خطه ترامب على الفلسطينيين إنشاء دولة مستقلة على غرار التصوّر العربي المقترح في القاهرة منذ أسابيع على أن تكون هذه الدولة بعاصمتها ضواحي القدس الشرقية منزوعة السلاح وعلى أن تبقى كذلك مقابل أن يكون لهذه الدولة دستورها الخاص والسيطرة القانونية على أرضهم ومؤسسات ماليه تتسم بالاستقلالية مقابل دولة “ اسرائيلية لها الحق بكامل القدس غير المقسّمة وسيادة “ اسرائيلية على المسجد الأقصى.
لعبت السلطة الفلسطينية ممثلة بمحمود عباس دوراً رسمياً مبراً عندما قال:” فلسطين ليست للبيع والمساومة ومستعدون للتفاوض على الشرعية الدولية التي هي المرجعية”، وعبر صائب علريقات آنذاك بقوله:” إن صفقة القرن هي نسخة عن مقترح “ اسرائيلي قدّم في 23/11/2012 ، ورفضها الكثير من الدول أهمها روسيا وسوريا التي وصفتها بكونها “وصفة الاستسلام للكيان الاسرائيلي” وايران ولعل الوصف السوري لصفقة القرن ينطبق حالياً على مبادرات السلام الإقليمي الذي يدور فلكه حول حل الدولتين على الصعيد الداخلي والتطبيع على المستوى الإقليمي بما يضفي الشرعية على الوجود الاسرائيلي ويكتب له الاستمرار.
وبناء على ما سبق إن مبادرات السلام الإقليمي المقترحة حالياً بغض النظر عن المواقف منها هي جزء لا يتجزأ من صفقة القرن الرامية حسب الادعاء إلى السلام في الشرق الأوسط، ويبدو أن استمرار الحرب وضرورة وتوسيع نطاقها يصب في خانة الضغط على الأطراف الداخلية الفلسطينية باتجاه الرضا بحل الدولتين وإجبار الدول العربية من باب الرضوخ إلى الأمر الواقع بالمضي قدماً بخطط التطبيع التي لا تحتاج إلى ضغوط بالأصل. وتطرّح هذه المبادرات أسئلة كثيره عن الدور السياسي الذي يستفيد من أمر وحيد هو بقاء الصراع مستمر في الشرق الأوسط واستخدامه كورقه سياسية رابحة ولأن ظاهر الجهود السياسية تبدي رغبة أمريكية بإحلال السلام وعلى ما يبدو أن هذا للاستثمار السياسي داخل أمريكا (الانتخابات القادمة) وخارجها دولياً من باب استقرار الدور واستمرار الدور القيادي العالمي لها الأمر الذي يعني أن أمريكا ستضغط على ” اسرائيل” مستقبلاً في سبيل تطبيق رؤيتها، ولكن الأمر الذي لن يكون كافياً لأن موقف المقاومة حاسم ولن يستطيع أحد تجاهله وما يحتم حاجة حماس مستقبلاً لمزيد من دعم حلفائها، وبالتالي إفشال حل الدولتين مقترن باستمرار المقاومة دون التعويل على الدور الدولي في هذا الموضوع.
محددات نجاح خطة السلام الإقليمي مستقبلاً:
إن مبادرات “السلام الإقليمي” من حيث المضمون امتداد لمشاريع وخطط أمريكية مطروحة منذ عام 1993 وحظيت بدعم الديمقراطيين والجمهوريين علاوة على التأييد الضمني للكثير من الدول العربية والإسلامية التي مالت إلى التطبيع والخضوع، لذا إن نجاح الأمريكي في انفاذ تصوره المزعوم للسلام في منطقه الشرق الأوسط يتوقّف على عدّة محدّدات نذكر منها:
اولاً: موقف فصائل المقاومة الفلسطينية الذي هو بالأصل رافض للأساس الذي تقوم عليه المبادرات الذي تمثل بصفقه القرن من قبل، واصرارهم سياسياً على استعادة الأرض الفلسطينية على أساس الشرعية الدولية وقرارات مجلس الامن.
ثانياً: عدم التعنت ال” اسرائيل”ي في موقفهم الرافض لمبادرة حل الدولتين جوهر مبادرات السلام الاقليمي ورضوخهم للضغط الأمريكي عليهم في حال تم في سبيل تمرير المبادرات الحالية التي هي محاولة لتمرير صفقة القرن بشكل أخر.
ثالثاً: ردّه الفعل الدولية رغم هامشيه هذا البلد من حيث الأهمية حيث دارت أغلبيه المواقف الدولية من قبل على رفض المبادرات الأمريكية على حساب حقوق فلسطين شعباً وجغرافياً.
رابعاً: الضغط الشعبي على الأنظمة السياسية العربية حيث يمكن أن يؤدّي دوراً حقيقياً في إحباط هذه المساعي أو انجاحها، والمطلوب حركات شعبية مؤيده للحق الفلسطيني العام ورافضه لتصفية قضيته وعزل مسألة ايقاف الحرب الدائرة ضد غزه عند دائرة المساومات والحسابات الاستراتيجية للدول المستفيدة من أخذ مجريات الأحداث بما يحقق مكاسب سياسية وإن كانت للاستثمار السياسي بحد ذاته.
خامساً: قرار الدول العربية بالمضي قدماً بعملية التطبيع، ويبدو أن الدول العربية صاحبة الشأن بمبادرات السلام الإقليمي قررت التطبيع بغض النظر عن عملية المساومة التي تقوم بها الولايات المتحدة عبر اشتراط ايقاف الحرب مقابل تطبيع واسع النطاق.
سادساً: موقف دول محور المقاومة، ففي حال قررت هذه الدول دعم حماس في الاستمرار بحركة المقاومة، فإن ذلك سيؤدّي حتماً لإحباط جهود أخذ الأمور باتجاه ترسيخ وجود الكيان الاسرائيلي شرعياً على الجغرافيا الفلسطينية.
سابعاً: موقف الداخل الأمريكي والاسرائيلي من حيث رضاهم بمضمون المقترحات الأمريكية من عدمه، وما يعقب ذلك من أخذ اعتبارات الأمن ومستقبل الوجود بعين الاعتبار على الصعيد الاسرائيلي حيث يمكن أن يحول الضغط الداخلي في أمريكا “واسرائيل” دون نجاح هذه المبادرات.
بقلم الدكتور: ساعود جمال ساعود
رئيس قسم الدرسات السياسية في مرصد طريق الحرير.