طريق الحرير هو طريق تأريخي كان يمتد من مدينة تشان غان عاصمة الصين خلال عهد سلالتي هان والتانغ إلى أوروبا عبر آسيا الوسطى والشرق الأوسط وأستخدم من القرن الثاني قبل الميلاد حتى القرن السادس عشر للتجارة ونقل البضائع الصينية وأشهرها الحرير (ومن هنا أشتق أسمه) إلى باقي مناطق العالم القديم .وبقى هذا الطريق البري مستخدماً حتى القرن السادس عشر عندما أستبدل بالطريق البحري .يتضمن موقع طريق الحرير 33 موقعاً مختلفاً تشمل مدن رئيسية، قصور, مستوطنات تجارية، ممرات جبلية، منارات,إجزاء من سور الصين العظيم، حصون, أضرحة ومباني دينية.
وبخصوص إطلاق المصطلح فإن “طريق الحرير” في الواقع مصطلحا حديث العهد نسبيا إذ لم تحمل هذه الطرقُ القديمة طوال معظم تاريخها العريق اسما بعينه. وفي أواسط القرن التاسع عشر، أطلق العالم الجيولوجي الألماني، البارون فرديناند فون ريشتهوفن، اسم “دي سيدينستراس” (أي طريق الحرير بالألمانية) على شبكة التجارة والمواصلات.
شُقت في المنطقة الأوروبية الآسيوية على مر التاريخ طرق للمواصلات ودروب للتجارة تشابكت وترابطت مع الوقت لتشكل ما يُعرف اليوم بتسمية “طرق الحرير”؛ وهي طرق برية وبحرية تبادل عبرها الناس من كل أصقاع العالم الحرير وغيره الكثير من السلع. كما أتاحت أيضاً تناقل المعارف والأفكار والثقافات والمعتقدات بفضل حركة الشعوب المستمرة واختلاطهم المتواصل مما أثر تأثيراً عميقاً في تاريخ شعوب المنطقة الأوروبية الآسيوية وحضاراتهم. لم تكن التجارة وحدها هي التي جذبت المسافرين المرتحلين على طول طرق الحرير وإنما التلاقح الفكري والثقافي. ناهيك عن الحرف اليدوية والأدوات التقنية، فما لبثت أن ازدهرت فيها اللغات والأديان والثقافات وتمازجت.
بات الحرير إحدى الصادرات الرئيسية للصين في عهد سلالة الهان (سنة ٢٠٦ ق.م.- سنة ٢٢٠ ميلادي)، وقد عُثر بالفعل على أقمشة صينية من هذه الحقبة في مصر وشمال منغوليا ومواقع أخرى من العالم.
مع أن تجارة الحرير مثلت أحد الدوافع الأولى لإقامة الطرق التجارية عبر آسيا الوسطى، لم يشكل الحرير سوى واحد من المنتوجات العديدة التي كانت تُنقل بين الشرق والغرب ومنها الأنسجة والتوابل والبذور والخضار والفواكه وجلود الحيوانات والأدوات والمشغولات الخشبية والمعدنية والقطع الدينية والفنية والأحجار الكريمة وغيرها الكثير.
وازداد الإقبال على طرق الحرير وتوافد المسافرين عليها طوال القرون الوسطى، وقد بقيت تُستخدم حتى القرن التاسع عشر مما يشهد ليس على جدواها فحسب وإنما على لدانتها وتكيفها مع متطلبات المجتمع المتغيرة أيضاً. كما لم تقتصر هذه الدروب التجارية على خط واحد – فكان أمام التجار خيارات عديدة من الطرق المختلفة المتوغلة في مناطق متعددة من أوروبا الشرقية والشرق الأوسط وآسيا الوسطى والشرق الأقصى، ناهيك عن الطرق البحرية حيث كانت تُنقل البضائع من الصين وجنوب شرقي آسيا عن طريق البحر الهندي باتجاه أفريقيا والهند والشرق الأدنى.
وتطوّرت هذه الطرق مع الزمن ومع تبدّل أحوال العلاقات بين الامبراطوريات مثل محاولة تجار الإمبراطورية الرومانية مثلا تجنب عبور أراضي البارثيين أعداء روما وسلكوا بالتالي الطرق المتجهة نحو الشمال عبر منطقة القوقاز وبحر قزوين.
وكذلك، تطوّرت هذه الطرق مع الزمن ومع تبدّل السياقات الجغرافية السياسية عبر التاريخ، شهدت شبكة الأنهار التي تجتاز سهوب آسيا الوسطى حركة تجارية مكثفة في بداية القرون الوسطى، إلا أن مستوى مياهها كان يرتفع ثم يهبط وأحيانا ًكانت المياه تجف كلياً فتتبدل الطرق التجارية بناء على ذلك.
وشكلت التجارة البحرية فرعا آخر اكتسى أهمية بالغة في هذه الشبكة التجارية العالمية. وبما أن الطرق البحرية اشتهرت خاصة بنقل التوابل، عُرفت أيضاً باسم طرق التوابل، فقد زَوّدت أسواق العالم أجمع بالقرفة والبهار والزنجبيل والقرنفل وجوز الطيب القادمة كلها من جزر الملوك في إندونيسيا (المعروفة أيضا باسم جزر التوابل)، وبطائفة كبيرة من السلع الأخرى. فالمنسوجات والمشغولات الخشبية والأحجار الكريمة والمشغولات المعدنية والبخور وخشب البناء والزعفران منتوجات كان يبيعها التجار المسافرون على هذه الطرق الممتدة على أكثر من ١٥٠٠٠ كيلومتر، ابتداء من الساحل الغربي لليابان مروراً بالساحل الصيني نحو جنوب شرقي آسيا فالهند وصولاً إلى الشرق الأوسط ثم إلى البحر المتوسط.
ويتوغل تاريخ هذه الطرق البحرية في العلاقات التي قامت قبل آلاف السنين بين شبه الجزيرة العربية وبلاد ما بين النهرين وحضارة وادي الهندوس. وتوسّعت هذه الشبكة في مطلع القرون الوسطى إذ شقّ بحارة شبه الجزيرة العربية مسالك تجارية جديدة عبر بحر العرب وداخل المحيط الهندي. فقد ارتبطت في واقع الأمر شبه الجزيرة العربية والصين بعلاقات تجارية بحرية منذ القرن الثامن ميلادي. وتيسّر مع الوقت ركوب البحر لمسافات طويلة بفضل الإنجازات التقنية التي تحققت في علم الملاحة والعلوم الفلكية وتقنيات بناء البواخر مجتمعةً. ونمت مدن ساحلية مفعمة بالحياة حول الموانئ المحاذية لهذه الطرق التي كانت تستقطب أعداداً غفيرة من الزوار على غرار زنزبار والإسكندرية ومسقط وغوا، وأضحت هذه المدن مراكز غنية لتبادل السلع والأفكار واللغات والمعتقدات مع الأسواق الكبرى وجموع التجار والبحارة الذين كانوا يتبدلون باستمرار.
وفي أواخر القرن الخامس عشر، أبحر المستكشف البرتغالي، فاسكو دا جاما، ملتفاً حول رأس الرجاء الصالح فكان أول من وصل البحارة الأوروبيين بالطرق البحرية المارة من جنوب شرق آسيا فاسحاً المجال لدخول الأوروبيين مباشرة في هذه التجارة.
وبحلول القرنين السادس عشر والسابع عشر باتت هذه الطرق والتجارة المربحة التي تمر بها موضع تنافس شرس بين البرتغاليين والهولنديين والبريطانيين. فكان الاستيلاء على موانئ الطرق البحرية يوفّر الغنى والأمان على حد سواء لأن هذه الموانئ كانت في الواقع تهيمن على ممرات التجارة البحرية وتتيح أيضاً للسلطات التي تبسط نفوذها عليها إعلان احتكارها لهذه السلعة الغريبة التي يكثر الطلب عليها وجباية الضرائب المرتفعة المفروضة على المراكب التجارية.
لعل الإرث الأكثر دواما الذي تركته طرق الحرير هو دورها في تلاقي الثقافات والشعوب وتيسير المبادلات بينها. فقد اضطر التجار على أرض الواقع إلى تعلم لغات وتقاليد البلدان التي سافروا عبرها كي ينجحوا في عقد مفاوضاتهم. فكان التفاعل الثقافي جانباً حاسماً من المبادلات المادية. وشهدت هذه الطرق تبادلاً للمعارف العلمية والفنية والأدبية فضلاً عن الحرف اليدوية والأدوات التقنية، فما لبثت أن ازدهرت اللغات والأديان والثقافات وتمازجت، ومن أبرز الإنجازات التقنية التي خرجت من طرق الحرير إلى العالم تقنية صناعة الورق وتطوّر تقنية الصحافة المطبوعة.
فالرجل الذي ينسب إليه عادة فضل إقامة طرق الحرير، الجنرال زانغ كيان الذي فتح الطريق الأولى بين الصين والغرب في القرن الثاني قبل الميلاد، كان في الحقيقة في بعثة ديبلوماسية أكثر منها تجارية. فقد أرسل الإمبراطور ودي من سلالة الهان عام ١٣٩ قبل الميلاد زانغ كيان إلى الغرب لعقد تحالفات ضد شعوب غيونغنو وهم الأعداء التاريخيون للصينيين، ولكنهم قبضوا عليه وسجنوه. وأفلح في الهروب بعد ثلاث عشرة سنة وتمكّن من العودة إلى الصين. وأُعجب الإمبراطور بكثرة التفاصيل التي قدمها وبدقة تقاريره، فأرسله في بعثة أخرى عام ١١٩ قبل الميلاد لزيارة عدة شعوب مجاورة للصين، وهكذا شقّ زانغ كيان أولى الطرق الممتدة من الصين حتى آسيا الوسطى.
وكان الدين وطلب العلم والمعرفة من الدوافع الأخرى للسفر على هذه الطرق. واعتاد كهنة الصين البوذيون على السفر للحج إلى الهند لجلب نصوص مقدسة، ويمثل ما دوّنوه من مذكّرات عن رحلاتهم مصدراً مذهلاً للمعلومات.
وأدت الطرق كذلك دورا أساسياً في نشر الأديان في المنطقة الأوروبية الآسيوية، وتعدّ البوذية خير مثال على هذه الأديان التي ارتحلت على طرق الحرير إذ عُثر على قطع فنية ومزارات بوذية في مواقع بعيدة عن بعضها مثل باميان في أفغانستان وجبل وتاي في الصين وبوروبودور في إندونيسيا. وانتشر الدين المسيحي والإسلام والهندوسية والزرادشتية والمانوية بالطريقة ذاتها فقد تشرّب المسافرون الثقافات التي صادفوها وعادوا بها إلى مواطنهم. ودخلت مثلاً الهندوسية ومن ثم الإسلام إلى إندونيسيا وماليزيا عن طريق تجار طرق الحرير الذي ساروا في المسالك التجارية البحرية للهند وشبه الجزيرة العربية.
تطوّر السفر عبر طرق الحرير بتطور الطرق نفسها. وكانت القوافل التي تجرها الأحصنة أو الجمال في القرون الوسطى هي الوسيلة المعتادة لنقل السلع عن طريق البرّ. وأدت خانات القوافل وهي عبارة عن مضافات وأنزال كبيرة مصممة لاستقبال التجار المسافرين دوراً حاسماً في تيسير مرور الأشخاص والسلع على هذه الطرق.
وفي القرن التاسع عشر، تردد نوع جديد من المسافرين على طرق الحرير هم: علماء الآثار والجغرافيا، والمستكشفون المتحمسون الراغبون في خوض المغامرات. وتوافد هؤلاء الباحثون من فرنسا وإنكلترا وألمانيا وروسيا واليابان.