بقلم: د. ساعود جمال ساعود – رئيس مركز الدراسات السياسية في مرصد طريق الحرير.
تبرز الصين كفاعل رئيسي يسعى إلى إعادة تشكيل النظام الدولي من خلال أدوات غير تقليدية في عالم تتسارع فيه تحولات موازين القوى، فبينما اعتمدت القوى العظمى تاريخيًا على القوة العسكرية لفرض هيمنتها، تقدم الصين نموذجًا فريدًا يقوم على “الصعود السلمي”، الذي يجمع بين القوة الاقتصادية، النفوذ الدبلوماسي، والتحديث العسكري المدروس، وهنا نطرح تساؤلاً رئيسياً: كيف تمكنت بكين من تحدي الهيمنة الغربية دون صدام مباشر؟ وما هي الأدوات التي تعتمد عليها لترسيخ مكانتها كقوة عظمى في نظام عالمي متعدد الأقطاب؟
لم يكن التحول الصيني الاقتصادي مجرد صدفة تاريخية، بل نتاج رؤية استراتيجية متعمدة بدأت بإصلاحات دينغ شياو بينغ عام 1978، التي حولت شنغهاي من مدينة عادية إلى قوة صناعية كبرى، ثم جاء مشروع “بودونغ” في 1990 ليرسخ مكانة الصين كعملاق تجاري يستقطب الاستثمارات العالمية، واليوم، لم تعد الصين مجرد “مصنع العالم”، بل أصبحت منافسًا شرسًا في صناعات التكنولوجيا الفائقة، من الهواتف الذكية إلى الطائرات المدنية، مستغلةً ميزة الجودة بتكلفة منخفضة لاختراق الأسواق العالمية، كما سيطرت على قطاعات حيوية مثل البتروكيماويات والزجاج، مما أثار مخاوف الغرب من تحولها إلى قطب اقتصادي وحيد في العديد من المجالات.
وفيما يتعلق بالعسكرة الذكية، تتراوح بين الردع والاكتفاء الذاتي، خلافًا لتوقعات المنظرين الواقعيين مثل جون ميرشايمر، لم تعتمد الصين على تحويل قوتها الاقتصادية إلى غزو عسكري، بل طورت استراتيجية “الردع النشط” عبر تصنيع عسكري محلي متقدم (مثل المقاتلة الشبح J-20 وحاملات الطائرات)، وتوظيف الذكاء الاصطناعي في الأنظمة القتالية والأمن السيبراني، وتصدير الأسلحة إلى حلفاء استراتيجيين (باكستان، الشرق الأوسط، أفريقيا)، هذا النهج يعكس رؤية بكين أن القوة العسكرية يجب أن تكون أداة حماية للنمو الاقتصادي، وليس وسيلة للهيمنة الإقليمية المباشرة.
على صعيد دبلوماسية القوة الناعمة، تدرك الصين أن الهيمنة الحقيقية تتطلب جذب القلوب قبل العقول، لذا توسعت في معاهد كونفوشيوس لنشر اللغة والثقافة الصينية، ومشاريع البنية التحتية (مبادرة الحزام والطريق) كبديل عن المساعدات الغربية المشروطة، ودعم دول الجنوب عبر منصات مثل “بريكس”، التي تروج لفكرة “نظام دولي أكثر إنصافًا”، وهنا تكمن عبقرية النموذج الصيني: تحويل النمو الاقتصادي إلى تأثير جيوسياسي دون إثارة حلفاء الولايات المتحدة في آسيا والمحيط الهادئ.
السؤال المطروح: رؤية 2049: هل ستكون الصين القائد العالمي الجديد؟ بالطبع، بحلول الذكرى المئوية لتأسيس جمهورية الصين الشعبية (2049)، تهدف بكين إلى تحقيق “النهضة الشاملة” عبر أربع ركائز التوسع الجيوسياسي عبر تحالفات اقتصادية، والتكامل التكنولوجي لقيادة الثورة الصناعية الرابعة، ودبلوماسية ناضجة تعتمد على “القوة الذكية”، والتهيؤ للقيادة العالمية عبر نموذج تنموي بديل.
ختاماًـ الصين وتحدي إعادة تعريف الهيمنة، إن استراتيجية الصين تمثل نقلة نوعية في مفهوم القوة؛ فبينما يعتمد الغرب على الأدوات التقليدية (العقوبات، الحروب، والمؤسسات المالية)، تقدم الصين نموذجًا يعتمد على الصبر الاستراتيجي (التدرج في الصعود)، والتكيف مع النظام الدولي (إصلاحه لا إسقاطه)، استقطاب العالم النامي عبر شراكات “غير سياسية”، ولكن التحدي الأكبر سيكون في التوازن بين الطموح والاحتواء الغربي، خاصة مع تصاعد التوترات حول تايوان وبحر الصين الجنوبي. إذا نجحت الصين في تجاوز هذه العقبات، فقد نكون أمام نموذج جديد للهيمنة في القرن الحادي والعشرين: هيمنة لا تُفرض بالدبابات، بل بالبنى التحتية والهواتف الذكية، بالنهاية، الصين لا تريد حربًا باردة جديدة… تريد أن تجعل العالم يعتمد عليها حتى لا يستطيع منافستها!