أسهمت المتغيرات الإقليمية والدولية في تعقيد عملية إعادة البناء السياسي، وتحوير المنظومة الأيديولوجية في سوريا، حيث تحولت الأزمة من حراك شعبي إلى صراع دولي معقد، خرج معه الحدث السوري من طور الأزمة إلى طورين متوازيين: الأول الحرب في سوريا، والأخر الحرب على سورية، حيث تحول الجيبوليتيك السوري إلى ساحة تدافعات جيوسياسية، بين قوى نظر بعضها للجغرافيا والشعب كونها عمق استراتيجي يوجب عليه شق الصفوف وإجراء عمليات استقطاب، في حين نظرت الفواعل الأخرى بمنطق الدافع لإتمام الصفقات الجيوسياسية وما تحتمه مقتضياتها من إزاحة سوريا بمعتقدها الأيديولوجي الذي شكّل المرتكز الحاسم للممارسات السياسية السورية في المجال الخارجي، فوجب حسب المعتقد المرسوم في المخيلة الاستراتيجية لعقليات صناع القرار للدول المعادية للنظام القديم، أن يتم تدمير الجسد الإيديولوجي القديم وإحلال بديل يتناغم مع مشاريعهم وتوجهاتهم، وهنا المشكلة فإما أن تكون أيديولوجيا السوريين من صنعهم أو يعيشين على مزاج غيرهم ممن خطط ودبر، وهذا ما يوجب عرضاً لأدوار الفواعل السابقة منذ البداية.
شهدت سوريا منذ اندلاع الحرب في سوريا وعليها، مطلع عام 2011 تحولات عميقة على المستويات السياسية والاجتماعية والأيديولوجية، مدفوعة بعوامل داخلية وخارجية معقدة، حتى أصبحت الأزمة السورية ساحة لصراعات إقليمية ودولية، حيث تداخلت مصالح القوى الخارجية مع ديناميات الصراع الداخلي، مما أثر بشكل مباشر على عملية إعادة البناء السياسي وإعادة صياغة المنظومة الأيديولوجية للدولة.
عند التعمق بالسياق التاريخي للمتغيرات الإقليمية والدولية، لا بد نلحظ منذ بداية الحرب كيف تحولت سوريا إلى مسرح لتصارع المصالح الإقليمية والدولية، فعلى المستوى الإقليمي، لعبت دول مثل تركيا وإيران والسعودية وقطر أدواراً حاسمة في دعم أطراف داخلية مختلفة المشارب الايديولوجية، سواء كانت موالية للنظام أو معارضة له، على سبيل المثال، دعمت تركيا الجيش السوري الحر، الذي تأسس في يوليو 2011 بقيادة رياض الأسعد، في المقابل قدّمت إيران دعماً عسكرياً وسياسياً لنظام الرئيس السابق بشار الأسد، حيث رأت في بقائه ضماناً لنفوذها الإقليمي عبر “محور المقاومة”.
على المستوى الدولي، لعبت روسيا والولايات المتحدة أدواراً متباينة حتى في إسقاط نظام حليفها الموثوق حيث ارتبطت روسيا بعلاقات تاريخية مع سوريا منذ الاستقلال، تدخلت عسكرياً في عام 2015 لحماية مصالحها الاستراتيجية، بما في ذلك قاعدتي طرطوس وحميميم، معتبرة أن سقوط النظام سيؤدي إلى خسائر سياسية واقتصادية وعسكرية فادحة، لتقبض ثمن تخليها عن الأسد ضمانات دولية وإقليمية ببقائها بقواعدها، ومن ناحية أخرى تبنت الولايات المتحدة سياسة حذرة، تركزت على دعم قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في مكافحة تنظيم “داعش”، دون التزام واضح بدعم المعارضة السياسية بشكل شامل
حول تأثير المتغيرات الإقليمية على إعادة البناء السياسي، فالتركيز بداية على الدور التركي في تشكيل المشهد السياسي، حيث لعبت تركيا دوراً بارزاً في دعم المعارضة السورية قبل سقوط النظام، خاصة في المناطق الشمالية مثل إدلب، لا سيما هيئة تحرير الشام التي سيطرت على الحكم في أواخر عام 2024، استفادت من الدعم التركي في تفكيك الأجهزة الأمنية السابقة ومحاولة بناء هيكلية سياسية جديدة، ومع ذلك، أثارت هذه السيطرة مخاوف من إعادة إنتاج سلطة أمنية مركزية قد تكرر أخطاء النظام السابق، خاصة في ظل ضعف الرقابة وغياب دمج حقيقي للفصائل العسكرية، إذ لم يقتصر الدور التركي على الدعم العسكري، بل امتد إلى محاولات صياغة هوية سياسية للمناطق المحررة، مع التركيز على نموذج يوازن بين الهوية العربية والإسلامية المعتدلة.
بخصوص النفوذ الإيراني وتعزيز الهوية الطائفية، فقد ساهمت إيران في تعزيز الانقسامات الطائفية داخل سوريا عبر سن سياسات غير متوازنة لا تخدم الأمن والاستقرار المجتمعي السوري ولكن ماذا يعني ذلك بالنسبة لإيران التي تركز على ما تسميه اعتبارات الأمن القومي، مما أثر على محاولات بناء هوية وطنية جامعة، هذا الدعم عزز الرواية الأيديولوجية للنظام القائم على “المقاومة”، لكنه أدى إلى تعميق الشرخ بين المكونات الاجتماعية السورية، والتي ظهرت أثاره السلبية بعد سقوط النظام.
فيما يتعلق بالدور السعودي وقطري، لقد قدمت السعودية وقطر تمويلًا للجيش السوري الحر وبعض الفصائل المعارضة، لكن هذا الدعم كان مشروطًا بأجندات إقليمية تهدف إلى مواجهة النفوذ الإيراني. هذا التدخل ساهم في تفتيت المعارضة بسبب غياب رؤية سياسية موحدة، مما أعاق تشكيل إطار سياسي متماسك لإعادة البناء، هذه التدخلات المتعددة خلقت تحديات هائلة في إعادة البناء الإيديولوجي للدولة السورية:
أولاً، أدت تناقضات رؤى القوى الخارجية إلى تفكك الهوية الوطنية السورية. بينما كانت إيران تعزز الطابع الطائفي، كانت تركيا والخليج تدفعان نحو هوية سنية، والغرب يروج للعلمانية، مما جعل من الصعب التوافق على رؤية مشتركة.
ثانياً، أدت تبعية الفصائل السورية للداعمين الخارجيين إلى إضعاف شرعيتها الشعبية. كثير من السوريين بدأوا يرون في هذه الفصائل أدوات لتحقيق مصالح أجنبية، وليس ممثلين حقيقيين لتطلعاتهم. ثالثاً، أدت الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن الحرب إلى صعوبة تطبيق أي إيديولوجيا، مهما كانت مثالية، في ظل انهيار البنية التحتية وتشريد الملايين.
السؤال: كيف أثرت المتغيرات الدولية على تحوير المنظومة الأيديولوجية للدولة السورية؟
أولاً: من جهة روسيا والحفاظ على النظام القديم: لقد سعت روسيا إلى الحفاظ على النظام الأيديولوجي القائم على مركزية الدولة والسلطة الأمنية، مستندة إلى إرث حزب البعث، ولقد عزز تدخلها العسكري هذا النموذج، لكنه أثار مقاومة شعبية واسعة، مما أدى إلى تعقيد عملية إعادة صياغة الهوية الوطنية
ثانياً: الولايات المتحدة والدفع نحو الديمقراطية المحدودة: ركزت الولايات المتحدة على دعم نموذج سياسي يعتمد على اللامركزية والتنوع الثقافي، خاصة من خلال دعم قوات سوريا الديمقراطية في المناطق الشرقية، مع ذلك كان هذا الدعم انتقائياً، ولم يشمل رؤية شاملة لإعادة البناء السياسي، مما حد من تأثيره على صياغة هوية وطنية جديدة.
نأتي إلى الأهم: ما هي تحديات إعادة البناء السياسي وتحوير الأيديولوجيا للدولة السورية؟ حيث تأتي أزمة الهوية الوطنية في مقدمتها في ظل تفكك السردية الوطنية المركزية التي روجت لها الدولة قبل 2011، نتيجة للانقسامات الطائفية والمناطقية، التي تجعل من الصعب إعادة إنتاج هوية سياسية جامعة، إضافة إلى غياب المرجعيات الموحدة، والتدخلات الخارجية ممثلة في الصراع بين القوى الإقليمية والدولية حول النفوذ في سوريا يجعل إعادة البناء السياسي عملية مشروطة بمصالح خارجية، مما يحد من السيادة الوطنية. ومن التوصيات لإعادة البناء السياسي والأيديولوجي للدولة السورية في ظل المرحلة القادمة، ما يتلخص بما يلي:
أولاً: إنشاء منصات حوار وطنية فعلية، تجاوزها يعني الفشل: يجب العمل على إنشاء منصات حوارية تشمل جميع المكونات السورية لصياغة هوية وطنية جامعة تستند إلى مبادئ العدالة والمساواة، وعدم فعل ذلك يعني الفشل بإعادة البناء الأيديولوجي والسياسي.
ثانياً: تعزيز التعليم المدني: إدراج مواضيع التنوع الثقافي والعيش المشترك في المناهج التعليمية بالمناطق المحررة لتعزيز التماسك الاجتماعي، وعدم فعل ذلك يعني الفشل بإعادة البناء الأيديولوجي والسياسي.
ثالثاً: تقليص التدخلات الخارجية قدر الإمكان: يتطلب إعادة البناء السياسي توافقاً دولياً على احترام السيادة السورية، مع التركيز على دعم المؤسسات المحلية بدلاً من فرض أجندات خارجية، وعدم فعل ذلك يعني الفشل بإعادة البناء الأيديولوجي والسياسي.
رابعاً: تمكين المرأة والشباب: إشراك المرأة والشباب في العملية السياسية كعنصر أساسي لبناء دولة ديمقراطية، حيث أن تحرير المرأة هو مؤشر على نجاح أي مشروع نهضوي، وعدم فعل ذلك يعني الفشل بإعادة البناء الأيديولوجي والسياسي.
في النهاية، تحولت سوريا إلى مختبر لصراع الإيديولوجيات الخارجية، حيث حاولت كل قوة فرض رؤيتها دون الالتفات إلى الواقع السوري المعقد. هذا الصراع لم يؤد فقط إلى إطالة أمد الحرب، بل جعل إعادة بناء الدولة السورية مهمة شبه مستحيلة في المدى القريب. الأمل الوحيد يكمن في قدرة السوريين أنفسهم على استعادة زمام المبادرة، وصياغة هوية وطنية جامعة تستوعب تنوعهم، بعيداً عن التدخلات الخارجية التي لم تجلب سوى المزيد من الدمار والانقسام.
رئيس التحرير : الإعلامي السيد يعرب خير بيك
بقلم : رئيس مركز الدراسات السياسية في المرصد د. ساعود جمال ساعود