أولا: الحدث وازدواجيه المضمون والرسالة:
قامت طائرات اف 35 الأمريكية الأصل المباعة لإسرائيل بقصف مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق في ضربه ذات وجهين: دبلوماسي بالدرجة الأولى وعسكري بالدرجة الثانية، وأدّت إلى مقتل قاده أمنيين وعسكريين لهم دورهم المحوري في توجيه عمل القوات الإيرانية المتواجدة في سوريا ولبنان، ما يعني أن ما يجري في غزه بالدرجة الأولى علاقه مباشرة بالضربة، إضافة إلى التحرّكات الإيرانية على الأراضي السورية التي لم تعد تخدم الأمن في سوريا بل تخدم مصالحهم الأمنية والعسكرية من جهة حزب الله رأس الحرب الإيرانية ضد الكيان الإسرائيلي ووجودهم على الأرض الفلسطينية سواء عناصر أو كمقدمين للدعم للدعم لحماس وفصائل المقاومة الأخرى.
وأخر ما استجد تأكيد زياد نخاله وإشادته للدعم بالدعم الإيراني سياسياً وعسكرياً لفصائل المقاومة الفلسطينية أثناء مقابلته مع الأمام الخامنئي، ما يعني أنه لا صحة لما أشيع أن خطة طوفان الأقصى غير مدبره وغير مخطط لها مسبقاً وبأيادي إيرانية لا تنكر، وهذا رد على بعض الأراء التي تنفي الدور الإيراني في هذه العملية، ولذا إن اسرائيل عندما تقوم بضربة عسكرية في ضد إيران، فهي جزء من حرب خفيه استخباراتية لا يعلمها المشاهد لما يعلن على الإعلام، أي أن الدور الإيراني في فلسطين اليوم هو من يقف وراء الاستهداف الإسرائيلي المستمر. وما نقصده بالمضمون فالضربة ضد إيران سوريا معاً والرد يتحتّم على الطرفين، وذي مضمونين دبلوماسي وعسكري ورسالته الوحيدة موجّهه لسيادة الدول واختبار لقدراتها وايديولوجية النظم السياسية بحد بشكل خاص.
ثانياً: تقديرات الخسارة الإيرانية بين المعنوية والمادية.
إن الضربة الإسرائيلية موجهه لإيران لابد أنها سببت فرحه عارمه لإسرائيل، ولكن قد لا تكون مأمونة الجانب وحول الخسارة الإيرانية نقول:
اولاً: خسارة مادية تمثّلت بإنهيار مبنى القنصلية وأثرت على مبنى السفارة والمناطق المحيطة، وهذا مكلف مادياً، ولكن ليس ذو تأثير على ميزانيه إيران ولا الدولة المضيفة إطلاقاً.
ثانياً: خسارة معنويه بشرية بوفاة أشخاص ذوي خبرة ومكانة سياسية وعسكرية، لكن الغذاء العقائدي ذاته والتوجّه السياسي كفيلة بإيجاد شخصيات مماثلة لهما، وستملئ امكنتهم بقادة أشد منهم من رجالات الثورة الإسلامية.
ثالثاً: خسارة سياسية ضربة تصب في صالح إسرائيل ضد إيران تزامنت بخسارة ثقيلة عسكريه.
بالنتيجة الأمر العسكري في العقيدة العسكرية الإيرانية والمرتكزات الايديولوجية للسياسة الإيرانية غير متوقفة على أشخاص مهما كانت قيمتهم بل هي مسألة نهج، لذا إن الضربة الإسرائيلية لن تحبط المساعي والخطط والأهداف الإيرانية، وما زالت اسرائيل حسب تقديرات مركز طريق الحرير في خطر ما دام الوجود الإيراني في محيطهم.
ثالثاً: غايات الضربة الإسرائيلية من منظور استراتيجي:
- إحداث شلل سياسي مؤقت لدى القيادة السياسية الإيرانية.
- إشغال الإيرانيين عن الأحداث في فلسطين.
- قد لا يستبعد محاولة رد لحزب الله على الجهة الشمالية بعد ضرب الحاضنة الإيرانية.
- تأخير آمد الخطط العسكرية الإيرانية ريثما تعود الترتيبات من جديد.
- رد فعل انتقامي على ما تسبب به قادة فيلق القدس من خسائر عسكريه في الداخل الاسرائيلي.
- محاولة جر إيران إلى سلسلة فعل ورد فعل تقود إلى معركة أوسع نطاقاً مع إيران.
- تضييق الخناق على إيران لإخراجها من سوريا بدليل انتهاك جميع المحرّمات الدولية ضدها.
رابعاً: اعتبارات الفعل الاسرائيلي بين العقلانية والمجازفة:
نقصد بالعقلانية كمصطلح مجازي حساباتهم الاستراتيجية لضمان أمنهم، ونعني بالمجازفة أخذ احتمال الرد وطبيعته من عدمه.
بالتأكيد إن الضربة الإسرائيلية تهدف إلى ردع الإيراني عن خططه وتحرّكاته فيما يخص الوضع في فلسطين ولبنان، وبشكل أقل الوضع في الشرق السوري ضد القواعد الأمريكية، ولكن السؤال هل أخذوا احتمال الرد الإيراني وحجم الخطر المحدق بهم قبل تنفيذ هذه الضربة؟! التي يراد بها رسالة ازعاج السوري من حليفه الإيراني الذي يتسبب بانتهاك لسيادته، وبالتالي حدوث خلاف سوري إيراني حول طبيعة الوجود الإيراني وتحرّكاته في سوريا لأن انسحاب الإيراني من سوريا يشكّل أمان أو ضمانة أمنيه لإسرائيل، ولذا لا يمكن استبعاد العمل السياسي على ايقاع خلاف سياسي بين الطرفين الإيراني والسوري، والمجازفة الإسرائيلية تتجلّى بعدم القدرة على التكهّن بحجم ومكان وزمان الرد الإيراني في حال حصل، لذا من المؤكّد بالنسبة لمركز طريق الحرير أن مثل هذه الضربة الإسرائيلية يراد بها جر إيران إلى رد بحجم كبير الأمر الذي يعني خطة إسرائيلية لحرب إقليميه موسعه نقطة انطلاقها فلسطين.
خامساً: احتمال اندلاع حرب إقليميه موسّعه:
إن هذا الاحتمال له ما يستند إليه من اعتبارات يجب أخذها بعين الاعتبار منها:
- حجم الضربة الإسرائيلية وخطورة نتائجها التي لم تتوقف على الصعيد الأيراني بل الإقليمي كما رأينا أثار ردود فعل إقليمية ودوليه.
- لابد أن الكيان أخذ رد الايراني على ضربه بهذا الحجم بعين الاعتبار.
- في حال نشوب حرب مع إيران ولو كانت مصغرة، فإن اسرائيل لن تكون وحيده، وسيكون الدعم الأمريكي حاضراً وجميع قواعدها العسكرية في المنطقة مفعّله لأن احتمال الرد الإيراني يثبت أن هناك محاولة لجر إيران إلى حرب مجهولة الزمان والنطاق.
سادساً: الصورة الإيرانية في المخيلة السياسية لدى الأطراف المحليين والدوليين:
إن الشعارات التي رفعتها إيران منذ قيام الثورة ومنها الموت لأمريكا واسرائيل إضافة إلى منجزاتها العسكرية المتتالية التي بلغت مستوى متقدم، إضافة لاعتناقها القضية الفلسطينية والمداومة الفعلية على دعم دول محور المقاومة أظهرت إيران بمظهر الدولة الجادة ذات المصداقية كما أن تحرّكاتها في مضيق هرمز، واعتراض سفن أمريكية أثبتت صورة القوه العسكرية لإيران التي ذاتها بادرت لقصف قاعدة عين أسد بعد استشهاد قاسم سليماني، الأمر الذي يعني أن إيران تلزم نفسها بالرد على أي انتهاك صارخ بحقها، وما حدث بالآونة الأخيرة سلسلة من الضربات التي استهدفت مقرات إيرانية وأودت بقادة ايرانيين على مستوى رفيع دون أن تقوم إيران بالرد استناداً لما أذاعوه أنه ضمن الصبر الاستراتيجي على الكيان المغتصب.
الضربة الحالية عسكرية ودبلوماسية تمس سيادة الدولة والأسلوب السياسي غير ناجح في التعامل معه الأمر الذي يعني إما أن:
- إيران ليست أهلا لشعاراتها وتتبنى أيديولوجيا خاويه.
- إيران عاجزة عن الرد على اسرائيل وتتخوف من الدخول بحرب موسعة معها.
- إيران تتجنّب جر المنطقة إلى حرب اقليميه تدخل حلفاء اسرائيل معها مقابل حلفاء منهكين سياسياً وعسكرياً لإيران.
وعلى أساس الحسابات الإستراتيجية سالفة الذكر إن إيران ملتزمة بالرد عبر حركه سياسية مساندة دولياً، تؤكّد على الأعراف والقوانين الدولية وملزمة بالرد العسكري لتحفظ صورتها كدولة ذات مصداقيه وزات مقدرة على الردع كما تدعي وإلا فإن الصورة الإيرانية اليوم إزاء التعامل مع الضربات الإسرائيلية ستكون مشابهه لحد ما مع نظيرتها السورية، وهذا ينم عن عجز معين ويوجب على إيران الابتعاد عن الزخم الأيديولوجي في خطاباتها السياسية وضرورة تبنّي سياسة خارجية أكثر مرونة.
سابعاً: استراتيجية أمريكية بين التنصل والترقب:
لا يمكن اعتبارها سوى مراوغه سياسية مدروسة وغير قابلة للتصديق ولا يركن إليها من قبل الإيرانيين حيث الأمريكيين أعلنوا منذ البداية على لسان منسّق الاتصالات الاستراتيجية في البيت الأبيض جون كيربي أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تكن متورطة بأي حال في الضربة الإسرائيلية إشاره أنّها تبرئ نفسها من الضربة وتحمّل حكومة نتنياهو مسؤولية الضربة ومغباتها، وتبعد أصابع الاتهام عنها، وبالفعل عادت أمريكا على لسان المتحدّث باسم الخارجية الأمريكية لتحرير لتحذّر إيران من استهداف مصالحها ؛ أي قواعدها في الشرق السوري أو حتى العراق كما يفهم من التصريح الأمريكي حصر الرد بالنطاق الإسرائيلي، الأمر الذي قد يستجيب له الإيراني رغبه في عدم الاصطدام بالأمريكي الذي قد يوسّع من نطاق الحرب أكثر.
إن الموقف الامريكي في ظاهره يشير لعدم تأييد لإسرائيل بالضربة والتهام غير مباشر بعدم حساب النتائج ولكن يبدو أن مصلحة الأمريكي في حصر نطاق المواجهة بين إيران وإسرائيل والإبقاء على مناطق نفوذه ضد أية محاولة للتأثير على وجودها واستمرارها وبتقديرنا لا يركن إلى الموقف الأمريكي ولابد ستتلقى إسرائيل الدعم العسكري منه في حال كانت هناك ضربة إيرانية موسّعه، مما يجبر إيران على أخذ الموقف الأمريكي والدعم لإسرائيل وحجم التحوطات والتجهيزات للرد بعين الاعتبار لأن التجهيزات الإيرانية الأمريكية تشير أن ردة الفعل الإيرانية ستعقبها ردة فعل أخرى، وهنا المكسب الأمريكي سياسي بحت إذ يستثمر بتصوير إيران سبب عدم الاستقرار في منطقه الشرق الأوسط، ويضع اسرائيل في صورة المدافع عن أمنه، وهذه محاولة لقلب الدول في المنطقة ضد إيران ولا تستبعد أية خطط حول تشكيل حلف ضدها ولكن هذا يبقى احتمال.
ثامناً: طبيعة الرد الإيراني بين الحتم والمعايرة:
إن رد الإيراني حفظاً لصورتها كدولة تحرص على صورتين: صورة الأيدولوجيا وصورة القوة باعتبارها قائدة محور المقاومة وأقوى دولة بهذا المحور وتشير دائماً إلى عجز الكيان وعدم كفاءته فأنّها مجبورة بالرد، ولكن يجب أن يكون مضبوطاً وموزوناً للأسباب الأتية:
أي رد موسّع سيقود إلى سلسلة من الفعل ورد الفعل وبالتالي الدخول بحرب موسّعه قد لا قد لا تجد إيران حلفاء لها فيها بحجم حلفاء اسرائيل وداعميها سواء عرباً أو أمريكيين أو أوروبيين.
القوات الأمريكية والإسرائيلية في حالة تأهب قصوى لأي رد إيراني محتمل ما يعني أن رد الإيراني سيعقبه ردود فعل أيضاً، وهذا الاستنفار يثبت كذب براءة أمريكا من فعلة اسرائيل.
أمام هذا الوضع وتجنباً لأخذ الأمور باتجاه حرب موسّعة فإن رد الإيراني يجب أن يكون متعدّد المسارات: أولها: سياسياً ومن ثم عسكرياً ولكن محدوداً بالزمان والمكان ومخصصاً للاستثمار السياسي والإعلامي وأقرب بسيناريو قاعدة عين أسد وإلا فالحرب الموسّعة ستكون حاضرة وستكون مكلفة اقتصادياً وعسكرياً وبشرياً بالنسبة لإيران وسيتخذ الرد بشكل ضرب أماكن سياسية ودبلوماسية إسرائيلية حساسّة في الداخل أو الخارج الإسرائيلي أو قواعد لهم خارج أراضيهم.
تاسعاً: احتمالية الرد عبر أذرع إيران:
هناك احتمالات بأنّ يقوم حلفاء إيران بالرد بما أن دعمهم وارتباطهم الأيديولوجي بإيران مباشر يستند هذا إلى:
- القيام بتغذيه حماس بالأسلحة اللازمة بالتزامن مع حزب الله على الجبهة الشمالية وتحديد نقاط حساسة من قبيل مطارات وموانئ او مباني دبلوماسية إسرائيلية لقصفها.
- لأن دخول الحرب بين دول مكلف وذو تداعيات على أمن منطقه الشرق الأوسط ككل، لذا فإن هذا مستبعد كلياً.
- إن أي ضربه لرايات سياسية وإعلامية ستكون عديمة الفاعلية وغير كافية للرضع للردع.
- استنفار جبهة الجولان السوري واحتمال تفعيل هذه الجبهة بموافقه سورية علنية.
إن الضربة الأخيرة وضعت إيران أمام اختبار صعب هو اختبار المصداقية حيث يقتضي ما تستعرضه من قوة وشعارات رداً قوياً قادراً على خلق الردع بوجه إسرائيل، ولكنها بالمقابل مضطرة لإبقاء ردّها ضمن حدود معينة ومضبوطة لأن توسيع نطاقه وشدّته من شأنه خلق ردة فعل غير مألوفة وإلا إذا تم اتفاقات استخباراتية غير معلنه حول كيفية الرد وبالشكل الذي يضمن صورة إيران امام الراي العام على العالمي، وهذا مستبعد.
محدّدات الرد الإيراني مستقبلاً:
يتوقف الرد الإيراني عسكرياً على عدّة أمور منها:
- مصداقيه القرار السياسي الإيراني بالرد.
- والمقدرة الإيرانية على الرد مع الأخذ بعين الاعتبار ردّه الفعل المقابلة.
- التحرّكات الإسرائيلية المتعدّدة للمضي في حرب خارج حدودها.
- ووضع قواعد اشتباك جديدة تحكم الصدام العسكري بين الطرفين عبر تفاهمات استخباراتية سريه أو عبر وكلاء.
- الموقف الأمريكي من حيث مسانده اسرائيل في قرار توسيع مواجهتها مع إيران أو كبحه لها حيث يسعى الأمريكي لإبقاء الصراع الإيراني الإسرائيلي مستمراً لأطول فترة دون اندلاعه بشكل يزيل أحدهما الأخر بغيت استثمار هذه التناقضات لإبقاء التوتر في منطقه الشرق الاوسط.
رئيس قسم الدراسات السياسية
الدكتور ساعود جمال ساعود
