حقل كاريش هذا الحقل الذي تتحدّد هويته بما يمتاز به موارد طاقويه، إذ هو كما حقلٌ للنفط والغاز الطبيعي، بحري على بعد 100 كم من السواحل الإسرائيلية على البحر المتوسط، ويبعد عن ساحل حيفا حوالي 75 كم، اكتشف الحقل في يوليو 2013م، تقدّر احتياطيات الغاز المؤكّدة في الحقل ب1.3 تريليون قدم مكعب.
تزايد أهمية هذا الحقل في ظل الظروف الراهنة التي تمر بها لبنان خصوصاً بعد دخولها بأزمة الفراغ الرئاسي، هذه الأزمة السياسية التي ما تزال تستعصي على الحل، تواكبت بممارسة الولايات المتحدة الأمريكية لجملة من الضغوط الاقتصادية على الشعب اللبناني، وتزايد المحاولات الإسرائيلية للعبث بأمن لبنان.
وبالمقابل ليس الظرف المحلي للبنان هو العامل الوحيد في تزايد أهمية هذا الحق، وتأجيج النزاع عليه، بل إنّ للعامل الدولي دورٌ هام لا يمكن استبعاده ولو تم المبالغه من تضخيم خطره، إذا إنّ القرائن على حدوث التأجيج بالترادف مع العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا كثيرة وهي قائمة على مبادئ عملية ونظرية منها منطقية الفكرة وكذلك الدراية العميقة بالخطط الصهيونية الأمريكية لدول منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص، فعلى سبيل التمهيد والاستدلال، أتخذوا حقوق الأنسان ومكافحة الإرهاب ونشر الديمقراطية حججاً للتدخّل والاجتياح الغير شرعي بتواقيت حساسة كأحداث أيلول أتخذوها منطلقاً لسياسات جديدة وللتأسيس لمراحل جديدة، وكثيراً ما كان التخطيط يتم بالتنسيق على صعيد المستويات المحلية والإقليمية والدولية في ظروف مواتيه لإطلاق مراحل سياسية جديدة أو للشروع
تنبع أهمية هذا التوضيح من لزوم القول بعدم استبعاد أن تكون الإجراءات الإسرائيلية المعادية للبنان بدعم من قبل أمريكا وأوربا، خصوصاً مع اشتداد زخم الأوضاع الاقتصادية في أوربا وحاجتها الماسّة للغاز والنفط، وقلة البدائل عن النفط الروسي، الذي أحكم الخناق على دول أوربا في استراتيجيته، هذه التي أداها بشكل دقيق قائم على الضغط على نقاط الضعف الأوربية، ولعل من الأمور التي كانت مرجحة فيما لو توجهت الأمور كما تريدها اسرائيل بأن تكون هي ذاتها أحد المزودين لأوربا بالنفط والغاز، في ظل ما أعرب عنه وزير الطاقة الإسرائيلي يوفال شتاينتس: “لأننا الجهة الغربية الوحيدة التي لا تعاني من أزمة طاقة، ولا تعاني من نقص في الكهرباء التي يتم إنتاجها من الغاز. سعر الغاز هنا هو 4-5 دولارات، وفي أوروبا يتراوح بين 30 دولارًا و 60 دولارًا، بل وأكثر في بعض الأماكن”. ولكن هذا مالم يحصل، ولكن لماذا؟!
نعم، هذا مالم يحصل بعد افتضاح أمرهم، ولجوء حرب الله للتلويح بالقوة، الأمر الذي أدخل الخوف ومحاذيره الكثيرة في قلوب قادة الكيان الإسرائيلي، لا سيما في ظل إدراكهم لأهم المتغيرات الطارئة على عناصر قوة حزب الله من قبيل الصواريخ الجوية والبحرية الدقيقة والبعيدة المسافة والمسيرات وغيرها علاوة على الخبرة القتالية لعناصره في حال حصول تقدم بري، هذه الأمور التي يأخذها الإسرائيلي بعين الاعتبار بعد حرب الثلاث أيان مع المقاومة الفلسطينية التي لا تقاس قوتها بقوة حزب الله، وهذا كلام قادة الكيان الصهيوني، فمن الطبيعي كان لجوءهم إلى تهدئه الخطاب العسكري وتذرعهم بإمكانية الحلول السياسية التي يم إرجائها للأوقات مستقبلية طويلة وهذه مماطلة ومراوغة الكيان المعهودة.
واليوم الثلاثاء الثالث عشر من أيلول، حدثٌ لا يمكن تجاهله، ألا وهو مناورات عسكرية اسرائيلية في منطقة خليج حيفا، لا سيما بعد أن نشرت وسائل إعلام اسرائيلية معادية عن تحذيرات من المخابرات الأمريكية بأن حزب الله يستعد لعمل عسكري، هذه المعلومة التي علق عليها القنصل الاسرائيلي بلوس انجلوس بقوله:” لسنا بحاجة إلى المعلومات الأمريكية”، موضحاً أنّها تأتي ضمن سياق العلاقات الاستثنائية حسب وصفه بين أمريكا و”اسرائيل”، وهذه إشارة على أنهم يعلمون تحرّكات الحزب بدقه ومتخوفين منها.
وفي مؤتمر في الأمم المتحدة مع سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة جلعاد إردان في تاريخ 12/9/2022م، طرح وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس سؤالاً مفاده: هل سنطلب.. الدفاع عن أنفسنا … عن طريق القوة العسكرية؟ وبذات الوقت أكد على أهمية التفاوض كطريق للخروج من” أزمة الحقل “إنّ صح التعبير، إذ قال: “يجب دفع المفاوضات قدماً، وبالتالي تعزيز الاستقرار والازدهار في المنطقة، ومنع التصعيد الذي سيضر قبل كل شيء بمواطني لبنان والدولة اللبنانية، ويعيدنا إلى نفس النقطة”.
والمثير للتدقيق في هذه المناورات أنّها لم تتم إلا بعد إعلان معلومات تفصيلية وتفاصيل أخرى لم يكونوا بوارد ذكرها في المناورات العسكرية الأخرى سابقاً، توحي بالحذر الشديد والخوف أيضاً ومن هذه التفاصيل مثلاً قول غانتس: “خلال التدريبات ستكون هناك حركة ملحوظة للجيش وسيسمع دوي انفجارات في منطقة التدريب”، وكذلك قال:” هذه المناورات ستبدأ صباح يوم الثلاثاء في منطقة الحدود اللبنانية، وستنتهي مساء اليوم ذاته”، هنا يمكن ملاحظة صفات هذه المناورة من قبيل قصر الوقت، طبيعية عادية ليست استفزازية حتى على صعيد الاصوات والسبب، وتحديد المكان مسبقاً، وهذا كله ذو دلائل أنها لا تنوي التصعيد مع حزب الله الذي هو الأخر على أتم الاستعداد والجهوزية لأي تحرّك إسرائيلي، وهنا أدلة على هذا الكلام منها ما قاله رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية الميجر جنرال أهارون حاليڤا في المؤتمر الدولي “لمكافحة الإرهاب” : “حددنا إمكانية حدوث تصعيد على الساحة الشمالية، نتيجة عدم التوصل إلى اتفاق بشأن الحدود البحرية”. رغم تحدثه عن ثقته العمياء بقوة استخباراتهم وأسلحتهم بشيء من الغرور والعجرفة ووصلت به الوقاحة لحد القول:” أذكّر أمين عام حزب الله حسن نصرالله بمدى القوة العسكرية الاسرائيلية، ومتأكد انه لا يريد تجربتها”. ولكن على ما يبدو قد نسي منظر خردة الميركافا الصهيونية، ونسي الثقب في ظهر بارجتهم ساعر عام 2006م، وتجاهل مرتابا مدى قوة حزب الله اليوم وناسفاً احتمال لباقي دول محور المقاومة التي يعد العدة بصمت لا يمكن توقعه “لشبك الإيادي في قصف الأعادي”، عبارة ستوضحها الأيام القادمة بكل تأكيد.
ومما يجب الوقوف عنده هنا ما قاله وزير الطاقة بأن الخلاف حول كاريش شكلي لأنّه بالأصل ليس ضمن منطقة النزاع وهو كان يقود المفاوضات بنفسه ولكن استبعد، وقد يكون لكلامه دور في ذلك، ولكن من باب التفنيد ما الفائدة من كلامه على فرض أنّه صحيح لطالما أن اسرائيلي تفرض نفسها بالقوم وتحاول اثارت المشاكل حوله؟ لا فائدة فالمشروع الإسرائيلي في استدامه إكتفائها الذاتي بالطاقات، وحماية نفسها من طوفان روسيا هو هاجسها الوحيد في الشرق الأوسط الذي تنظر له اليوم كمنطقة آمنة ولعل كلام أحد قادتها:” لولا حزب الله لكان لبنان أنضم إلى أبرهام” ما يثبت كلام براحتهم للمنطقة واستماتتهم بزع إيران التي لا يرون تهديداً سواها اليوم.
بالنسبة للبنان يكمن مآزقها الاستراتيجي اليوم بحاجاتها ومفرزات حاجاتها لعوائد حقل كاريش من النفط والغاز خصوصاً في ظل الظروف التي تمر بها لبنان، الأمر الذي يقتضي أخذها لنصيبها من الحقل، والاسرائيلي يعرف جيداً مدة حاجة لبنان، وهذا ما ظهر من كلام رئيس الاستخبارات العسكرية الاسرائيلي: ” لست بحاجة لتمرير رسائل للشعب اللبناني، فهو يريد كهرباء ولكنها تنقطع عنه، الشعب اللبناني يشهد العملة اللبنانية تنهار”، معتبراً أن “لبنان كباقي الدول التي تمولها إيران مثل العراق واليمن وسوريا، موجودة في ذيل قائمة الدول في كل المؤشرات الدولية”.
ولعل أبرز ما يتضح لنا بعد هذا المرور بأنّ “اسرائيل” كانت تخطط كالعادة للاستغلال الحقل بشكل كامل لمصلحتها بمعزل عن لبنان، ولكن معادلة المقاومة ضد الكيان الصهيوني، برزت واضحة؛ حزب الله الذي يقف بحكم تكوينه الإيديولوجي من جهة وبمقتضى الدور والوجود السياسي والعسكري والاجتماعي من جهة أخرى، بوجه اتفاقيات إبراهام حسب قول ساسة وقادة الكيان الاسرائيلي سبب جوهري لرضوخ “اسرائيل” إلى المفاوضات، والتباحث حول هذا الحقل خصوصاً بعد أن وصلت لبنان لظروف اقتصادية واجتماعية تساعد “اسرائيل” بتحقيق أهدافها، بل كانت اجتازت لبنان عسكرياً مباشرة بدون تردد، ولعل ضرباتها “أسرائيل” المتكررة ضد إيران وسورية أوهمته بوهن عزيمة المقاومة وحاضنيها
إن عامل الردع الذي تسببت به المقاومة الإسلامية بسلاحها ومبادئها السياسية وبوضعها للسيادة كعامل موجّه لها في كلامه المنطوق وأفعالها السياسية عملياً، جعلها طرف معادلة مكافئ للإسرائيل رغم إمكانياتها التي تضاهي دول، وهذا هو السبب الرئيسي في شاكلة الحل للخلاف حول حقل كاريش، الي تجلّى بالمتفاوض وليس الحرب كالمعتاد رغم المماطلة من قبل اسرائيل في الوقت، وهذا شيء غير مستغرب ولا ينطوي على ذكاء لأن المؤكد أن اسرائيل ستحاول تحقيق أكبر قدر من المكاسب عبر ما ستبتدعه من وسائل قوامها الحيل والدعم الدولي، ويبقى المهم في هذه المناوشات إنّ صح التعبير هو جوهر المعادلة والتغيير الحاصل ، وهو ما أتفق به مع ما قاله رئيس تحرير جريدة «البناء»:” أن دخول المقاومة على خلفية موازين القوى الحاكمة للتفاوض، لم يفرض تسارعاً وجدّية في حركة التفاوض مكان المماطلة والتسويف فقط، بل فرض إثبات القدرة على إحداث التوازن في معادلتي الاستخراج على طرفي الحدود”، حيث كانت حكومة الاحتلال خلال السنوات العشر السابقة، تنقب وتتابع حفر وتجهيز الآبار وتستخرج النفط والغاز، بينما لبنان ممنوع من القيام بأي خطوة لصالحه، ولكن بعد اليوم سيكون للكلام والفعل مضمون أخر سببه حسابات “اسرائيل” وتوجساتها الاستراتيجية على وجودها ومصالحها، وليس ما قاله وزير دفاع اسرائيل في 18/9/2020م أكبر دليل على رضوخ اسرائيل لثقل عامل الردع والتوجسات الوجودية لهم حيث يقول: “إذا أراد نصرالله تعطيل مفاوضات الحدود البحرية ومهاجمة منصة كاريش، فإن الثمن سيكون لبنان”. هذا القول الذي يوحي بأنهم يخططون لشيء ما من قبيل افتعال أحداث وإتهام المقاومة أو تفخيخ المفاوضات وهذا ما سيتبين مستقبلاً.
بقلم الدكتور ساعود جمال ساعود