بإمكان المراقبين للسياسات الدولية في عالم اليوم ملاحظة ما يعتري السلوك الدولي لبعض الوحدات الدولية من الجمع بين الشيء ونقيضة أحياناً، ومن اتخاذ إجراءات احترازية استباقية تحميها من الصدام المباشر المكلف، الأمر الذي دفع الكثير من الباحثين الأكاديميين للسعي نحو إيجاد مقاربة منطقية لتفسير ذلك، وضمن هذه المحاولات كان الجهد الأكاديمي الذي قدّمه كلّا من المؤلفين الدكتورة علا رفيق منصور والدكتور المصري أيمن إبراهيم الدسوقي في كتابٍ بحدود 320 صفحة، صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، حيث قدّما شرحاً جديداً لنظرية التحوّط الاستراتيجي بوصفها المقاربة الأدق لتفسير السلوك الدولي للدول الصغيرة والمتوسطة، متخذين من سياسات إيران تجاه الولايات المتحدة الأمريكية نموذجاً تطبيقياً لتوضيح مضمون وأبعاد هذا المفهوم.
حاول المؤلفان تطوير نظرية التحوّط الاستراتيجي كونها نظرية جديدة تحاول تقديم شرح حول أليات التعامل في العلاقات الدولية وفق ما تمليه المتغيرات المعاصرة على أمن واستقرار الدول لا سيما من قبل الدول الكبرى ذات المخططات التوسعية، والتي قد يؤدّي عدم إتقان المعاملة معها إلى حدوث نتائج كارثية، وعمد كلّ من المؤلفين إلى التمييز بين استراتيجية التحّوط وبين المقاربات المماثّلة في العلاقات الدولية مثل التوازن الصلد، والتوازن الناعم، والمسايرة، وغيرها.
ولقد أورد المؤلفان تعريفاً عاماً للتحوط الاستراتيجي أجمع عليه غالبية من كتبوا بالموضوع ذاته مفاده أنّ نظرية التحوّط الاستراتيجي ” تُعبّر في الأساس عن اتّباع منهج معتدل وسطي يقوم على التوازن الناعم والتوازن الصلد، حيث تتعاون الدولة “المتحوِّطة” مع مصدر تهديد أمنها الوطني (الدول المهدِّدة)، لتجنّب الدخول في صراعات غير متكافئة، بالتزامن مع تحرّك الدولة المتحوِّطة باتجاه إيجاد عناصر من التوازن الصلد في مواجهة الدول المهدِّدة، عن طريق تطوير قدراتها العسكرية والاقتصادية وزيادتها، والانخراط في تحالفات سياسية أو عسكرية مع القوى المنافِسة للدول مصدر التهديد”.
وحتى تكون الدول متحوطة فإنّه لا بد لها من استيفاء جملة من الأبعاد من قبيل تحسين القدرات التنافسية سياسياً وعسكرياً وإقتصادياً، والتحسّب لأي طارئ مستقبلي عبر زيادة الاحتياطيات الاستراتيجية من السلع العامة، والانخراط في علاقات تعاونية مع الدولة المهدّدة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والتخطيط لاستراتيجية التحوّط والتنسيق لها على أعلى المستويات الحكومية؛ والاستعداد لقبول التكلفة المحلية والدولية لمتابعة التحوّط.
أخذ المؤلفان منحى بعيد في كتابهما حول اتباع استراتيجية التحوّط الاستراتيجي حيث أوضحا أنّ أتباعها ليس حكراً على الدول الصغيرة والمتوسّطة بل تُوظِّفها القوى الكبرى التي تنتمي إلى في النظام الدولي، سواء أكانت حليفة أم مُتحدّية وغير راضية عن مكانتها الدولية، لمواجهة الأخطار الكامنة في بيئة دولية تتّسم بعدم اليقين أو لموازنة الدولة القائدة ولمواجهة ما يترتب على سياساتها الخارجية، ومن أبرز إيجابيات استراتيجية التحوط الاستراتيجي بالنسبة للمؤلفين أنّها تساعد على منع المنافسة الجيوسياسية من التحوّل إلى مواجهة حقيقية، وهي مصلحة أساسية متبادلة للطرفين (الدولة المتحوِّطة، والدولة المهدِّدة).
وبالتطبيق على إيران ففيما يتعلّق بالسياسة الإيرانية تجاه الولايات المتحدة خليطًا من التعاون والصراع، حال دون حدوث مواجهة مباشرة بينهما، وفي الوقت نفسه حافظ على قدر من التعاون الدبلوماسي في إطار المفاوضات الدولية، إضافة إلى حرص إيران على تكوين تحالفات استراتيجية وأمنية مع بعض الدول الكبرى، والحفاظ على قدرات عسكرية دفاعية وهجومية تضمن لها الحماية المناسبة، وفي الوقت نفسه، كانت إيران تُظهر دائماً قدراتها العسكرية المتطوّرة، عن طريق إطلاق الصواريخ الباليستية، وإعلان وجود أسلحة متطوّرة، إضافة إلى علاقاتها الاستراتيجية بالدول الكبرى لا سيما روسيا والصين، وحاولت الحدّ من سياسات واشنطن السياسية والدبلوماسية ضدها بما لديها من وسائل متاحة، ويؤكّد المؤلفان أنّ انضمام إيران لمحور بكين الصين لم يكن للاحتماء بهما في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية، بل كان لتحسين وضعها الأمني في مواجهة واشنطن.
وبخصوص إيجابيات إتباع استراتيجية التحوط الاستراتيجي بالنسبة لإيران، فقد أكد المؤلفان أنّ استراتيجية التحوّط تسهم في تقليل التهديدات الطويلة الأجل إلى أقصى حد ممكن أي المواجهة العسكرية مع الولايات المتحدة، إضافة إلى تعزيز فرص التعاون الدبلوماسي، كما مكّنت استراتيجية التحوط إيران من الفصل بين القضايا، ومن ثمّ تنويع الشركاء الدوليين والإقليميين فهي شريكة الأوربيين من جهة والروس والصينيين من جهة أخرى، وكذلك تنويع مجالات التعاون مع الشركاء ذاتهم بين مجالات البنية التحتية والنفط والتجارة وتكنولوجيا الفضاء والتعاون الدبلوماسي والمجال الاقتصادي والاستخدام السلمي للطاقة النووية، وغيرها.
وبالنتيجة توصّل المؤلفين إلى أن إيران تمكّنت باتباعها لاستراتيجية التحوّط الاستراتيجي من حماية برنامجها النووي، والحفاظ على أمنها القومي بتجنّب خطر المواجهة المسلّحة مع الولايات المتحدة، وتحقيق توازن داخلي وخارجي، وتعزيز مكانتها في المعادلة الإقليمية في الشرق الأوسط، ممّا يعني أن الدول المتحوّطة لا تحاول تغيير وضعها هنا بل تعمل على تأمين وضعها نسبياً عبر إزالة أو تقليل عوامل تهديد استقرارها أو بقائها، كما نجحت بتطبيق أركان استراتيجية التحوّط عندما نجحت بترسّيخ مكون (المشاركة والحوار) مع القوى العالمية الصديقة لها أو المعادية بغض النظر عن النتائج بدليل حافظت عليها، من خلال مشاركاتها في المنظمات الإقليمية، لإضفاء طابع مؤسسي على علاقاتها بموسكو وبيجين، إضافة إلى تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتوقيعها خطة العمل الشاملة المشتركة مع الولايات المتحدة والدول الخمس الأخرى.
د.ساعود جمال ساعود