ما تزال كلمة الأمين العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني قيد الترقب والتحليل نظراً لعمق مضامينها وتعدد مستوياتها وأبعادها، وبناء على المستوى تطور هذه الدولة التي أصبحت هدفاً أمريكياً مباشراً وبشكل علني بعد صدور استراتيجية الأمن القومي الأمريكي.
إنّ مبدأ وضع السياسات الذي جرت عليه الدول يقوم على المسارعة لسن سياسات جديدة تحقق التناسب مع الظروف المستجدة محلياً وإقليمياً ودولياً، بالشكل الذي يمكن الدولة من مواجهة التحديات التي تواجهها على كافة المستويات، وهذا ما ينطبق على الصين محلياً ودولياً في ظل هذه الفترة الحرجة التي يشهدها العالم في ظل تكالب الناتو والأمريكي ضد الروس عبر البوابة الأوكرانية، وتعالي النبرة الحادة للبنتاغون وبيته الأبيض بقيادة الديمقراطي جو بايدن ضد الصين؛ التي تقابل التهديدات الأمريكية بكثير من الهدوء والعقلانية والبعد عن التصعيد ولسان الحال بالنسبة لها للعالم أجمع بما فيها الأمريكيين:” نحن مشغولون بشؤوننا الداخلية ولا وقت لنا لاستنزاف طاقتنا في حروب تسعى للحكم بالقوة العسكرية، بل جل مسعانا يتركّز على إقامة علاقات ودية قائمة على التعاون والاحترام المتبادل”.
وهذا يمكن ملاحظته من سلوك الصين الخارجي فلم تتدخل بما يجري بين روسيا وأوكرانيا عسكرياً كما تفعل أمريكاً والناتو أحياناً علناً وأحياناً بالخفاء، ولم تتدخل بالحرب ضد سورية عسكرياً كما فعل الكثير، وإن مارست بدوها الذي يمليها عليها القانون والإنسانية، وكثيرة هي الحالات التي تُظهر الاختلاف بين نهج الصين ونهج الأمريكي الذي يفكر بعقلية الحرب الباردة مع السوفييت سابقاً، حيث ينظرون للصين من منظور تأثيرها على استمرار قطبيتهم الأحادية عبر ثقلها الدبلوماسي الناعم(قوتهم الناعمة)، ونموهم الاقتصادي وتجربتهم التنموية الرائدة، وقوتهم العسكرية والغزارة الديمغرافية، والفورة التكنولوجية، والتناسق الايديولوجي رغم تعدّد النظريات الايديولوجية التي عرفتها الصين، ووحدة الهدف سر الاستقطاب إضافة للبعد العقائدي، وخفة التضارب السياسي رغم وجود أحزاب أخرى غير الحزب الشيوعي ولكن لا ترقى لمستوى قاعدته الشعبية ولا لمستوى تأثيره الفعلي في الحياة السياسية العامة، وهو اليوم يقودهم بنهج وعقلية تحقق لهم التقدم والسعادة المعيشية والأمان السياسي والعسكري دولياً مما يجعل من حكم الحزب الشيوعي للصينيين أمراً رضائياً عن طيب نفس لا كما تسوغ له القنوات المعادية سياسياً وفكرياً وإعلامياً، فهم لا يديرون خير الصين لا قيادة ولا شعب الذي يملك وعياً وذكاءاً قلّ نظيره .
إنّ سر التمسّك بالقائد الراهن وبالحزب الشيوعي الصيني تعود إلى ما تبنّاه من سياسات ناجعة ، أثبتت نجاحها وعادت بالفائدة الجمعية على الشعب الصيني وعلى مستوى تقدّمه خلال الـ 100 عام ماضية، ولوعدنا للأدلة والإثباتات لوجدنا الصين بالفعل قد خطت لا بل رسّخت الاشتراكية ذات الخصائص الصينية، وبنت رصيد اليوم الذي سيكون منصة انطلاق أقوى للغد، لتتحقق الآمال بنهضة الأمة الصيني والتي ستكون كفيلة لوحدها بانهيار قطبية أمريكا العفنة التي قامت على جثث ودماء الأبرياء من شعوب العالم، فقد تم التخلص من الفقر المدقع، وأكمل بناء مجتمع رغيد الحياة على نحو شامل، حيث بلغ الناتج المحلي الإجمالي للصين 18.5 بالمئة من الاقتصاد العالمي، بزيادة 7.2 نقطة مئوية على مدى السنوات العشر الماضية. وأصبحت الصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم، شريكة تجارية رئيسية لأكثر من 140 دولة ومنطقة، لتقود العالم من حيث إجمالي حجم التجارة في البضائع.
ومن خلال فلسفتها التنموية المتمركزة حول الشعب، قامت الدولة ببناء أكبر أنظمة تعليم وضمان اجتماعي ورعاية صحية في العالم، حظيت مبادرة الحزام والطريق بالترحيب من جانب المجتمع الدولي كونها منفعة عامة ومنصة للتعاون، وعلى الرغم من كل الإنجازات التي حققتها الصين فقد حث الأمين العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي شي جي بينغ جميع أعضاء الحزب على عدم إغفال أوجه القصور والصعوبات والمشكلات، وأعطى الأمثلة على هذه المشاكل من قبيل الاختناقات التي تعيق التنمية عالية الجودة، والفجوات الواسعة في التنمية، وتوزيع الدخل بين المناطق الحضرية والريفية وبين مختلف المناطق، مع الإشارة أنه في عام 2021م تم الإعلان عن القضاء على الفقر في الصين إلا أنّها لم تقف هنا بل تستمر بتدارك أي صعوبات موجود أو محتملة، وهذا لا يعني تبرير أو إرجاء حل مشكلة بل يعني تدعيم النتائج الإيجابية، والارتقاء نحو خطوات أكثر تقدّماً.
وبالمجمل إن ما تم التوصل إليه من إنجازات عظيمة في الصين يعكس ويجسد بالوقت ذاته محاولات الصين لترسيخ ركائر الاشتراكية ذات الخصائص الصينية ومن خلال فلسفتها التنموية المتمركزة حول الشعب، ولعل هذا ما جعل خطاب كلمة الأمين العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني يتمركز حول التأكيد على المضي بترسيخ وتعزيز ركائز
الاشتراكية الصينية، حيث قال:” “يجب أن نستمر في إعطاء الأولوية لتعزيز التنمية عالية الجودة، والجمع بشكل عضوي بين تنفيذ استراتيجية توسيع الطلب المحلي وتعميق الإصلاحات الهيكلية في قطاع التوريد .. ومن الضروري تسريع إنشاء نظام اقتصادي حديث والتركيز على تحسين الإنتاجية الإجمالية لعوامل الإنتاج وتعزيز مرونة وأمان سلاسل الإنتاج والإمدادات”، وأشار الأمين العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي إلى ضرورة تعزيز وتطوير القطاع العام للاقتصاد، وتشجيع ودعم وتوجيه تنمية القطاع الخاص، والكشف عن دور السوق في توزيع الموارد، وإظهار دور السوق بشكل أكثر فاعلية، وكذلك قال :” من الضروري تشكيل نظام إنتاج حديث، وتعزيز نوع جديد من التصنيع، وتسريع تحوّل الصين إلى قوة عالمية رائدة من حيث تطوير تقنيات التصنيع والفضاء والنقل والشبكات وكذلك جودة المنتجات”.
وبقراءة لما بين السطور يتضح أن الصين في المرحلة المقبلة ستكون قادمة على أطوار جديدة من التنمية تختلف عن سابقتها من حيث النوعية والمستوى والاستراتيجيات المستخدمة، وحتى النظم الاقتصادية(نظام اقتصادي حديث+ نظام إنتاج حديث)، والنطاق(قطاعات مفعلة الدور أكثر من ذي قبل)، والفاعلية والمدى(تنافسية عالمية)، أي أن نهضة الأمة الصينية قاب قوسين أو أدنى.
والمشهد المقبل يسوده التفرّغ للشأن الداخلي بما يمليه من حاجات وصعوبات يجب حلها وتفاديها، وهذا ما يحتاج لداعم وحافظ يؤمن حماية هذه النهضة يتمثل بالجيش الصيني ، حيث قال الأمين العام :” شدد الرئيس الصيني على أن بلاده ستسرع بناء جيش على مستوى عالمي، وتعزز قدرتها على بناء قوة ردع استراتيجية، لافتاً إلى أنه يجب أن تلتزم الصين بقيادة الحزب المطلقة للجيش”، ومن جهة أخرى وفيما يتعلق بالمجال الخارجي أعلنت الصين مراراً أنها على حياد من الحروب والنزاعات التي تشعلها الولايات المتحدة الأمريكية، وتجمعهم علاقات سلمية مع جميع الدول، وتقوم سياساتها على التعاون واحترام السيادة والاستقلال وهنا قال الأمين العام شي جي بينغ:” إن الصين تعارض بحزم جميع أشكال الهيمنة والسياسات القائمة على القوة وتعارض عقلية الحرب الباردة، والتدخل في شؤون الدول الأخرى الداخلية” ، كما أشار الأمين العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي إلى أهمية سياسة بلد واحد ونظامان، فقد أكد الأمين العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي على خصوصية الوضع بتايوان باعتبارها شأن داخلي محض وجزئ لا يتجزأ من الأمن القومي الصيني. ولهذا كله إن الصين التي تركز على الداخل وتتجنب الاستفزاز وهدر طاقاتها، قاب قوسين أو أدنى من نهضة الأمة الصينية.
بقلم الدكتور ساعود جمال ساعود