بقلم د. ساعود جمال ساعود
من الصعب لمن أبصر تاريخ العلاقات السورية وقارنها بما بما سادها بعد الانتهاكات المدروسة والمتتالية بحق الجغرافيا السورية، أن يذهب لما ذهب إليه البعض من كون
الاجتماع بين وزراء خارجية الدول الأربع ” سورية وتركية وايران وروسيا ” في موسكو، كان – بحد زعمهم- اختراقاً في مسار استعادة العلاقات بين سورية وتركية، فالمسألة ليس استعادة علاقات بالنسبة لسورية بل تصحيح مسار بدء التركي الانحراف عبر ممارساته العدوانية وانتهاكاته للقوانين الدولية بحق الدولة والشعب والجغرافيا السورية، عبر استغلاله الحرب كورقة سياسية لتحقيق مكاسب وطموحات الصعود الإقليمي والمكانة الدولية التركية على حساب سورية والسوريين.
صورة المصافحة بين وزير الخارجية السوري “فيصل المقداد” والتركي “مولود جاويش اوغلو” التي تناقلتها وسائل الاعلام ليست مجرد صورة لمصافحة بين وزيرين بعد حالة العداء بين بلديهما كما وصفها إعلامي الميادين كمال خلف بمقاله في صحيفة رأي اليوم اللندنية، انّها تتجاوز ذلك في أبعادها ومضمونها ودلالتها.
من حيث الدلالات الشكلية، وبالاستناد إلى الخبرة التاريخية بالتجربة السياسية السورية، ونظراً لتمسك سورية بالمبادئ التي تضمن سيادتها واستقلالها التي أثبتت مصداقية التمسك بهما خلال السنوات الماضية، فإننا نتفق مع ما ذهب إليه البعض من كون الطرف السوري لا يقدم على هذه المصافحة الحارة، والحضور إلى موسكو على مستوى وزير خارجية لو لم يحصل على ضمانات كافية حول وجود تغيّر في السياسية التركية تجاه بلاده- يلائم مطالب وتوجهات سورية- خاصة في الشق المتعلّق بالوجود العسكري التركي في الشمال السوري، ومقاربة تركية لإدارة ودعم وتقوية الجماعات المسلحة والفصائل المتطرفة المسيطرة على مناطق في الشمال . المصافحة بين المقداد وجاويش اوغلو ، تعني ان الخطوط العريضة لاتفاق شامل بين البلدين قد تم وضعها، وهذه دلالة تسوية للمشاكل العالقة بين الدولتين والتي كانت السبب في تدهور العلاقات شاملة علماً أن التركي كان السبب في التدهور واليوم عاد بتراجعه عن سياساته ليكون سبباً أيضاً في عودة العلاقات لما كانت عليه علماً أن المشكلة مشكلة حكومة وليست مشكلة شعب.
ويشير تكليف الوزراء لنوابهم لإعداد خريطة طريق لاستئناف العلاقات بين دمشق وأنقرة، إلى العديد من الدلالات منها:
1- ما يفرضه تعدّد جوانب الخلافات من ضرورة إيجاد أكثر من مسار تمضي كلها بشكل متواز لحل القضايا الخلافية مثل الوجود العسكري التركي، وكيفية الاتفاق على صيغة للتعامل مع الجماعات المسلّحة التي تحكم سيطرتها على مناطق الشمال، وعودة اللاجئين السوريين ملفات التعاون الاقتصادي.
2- على عكس ما ذهب اليه بعض الإعلاميين من إدراج التمثيل الدبلوماسي وتغيير الخطاب الإعلامي كخلافات أساسيات إلا أنّها بوابات تمهيدية لما هو أعمق ولا تقارن من حيث عمق الخلاف بغيرها حتى تكاد شكلية.
3- تغيّر جذري في الوضع العسكري في مناطق الشمال الخارجة عن سيطرة الدولة السورية الأمر الذي تمثّل بالحضور الفاعل للعسكريين والاستخباراتيين، والموضوع الماثل الفصائل العسكرية( هيئة تحرير الشام) الرافضة للاتفاق والتي تخشى على مصيرها بعد تركها من قبل التركي لمواجهة المصير الجديد.
وبخصوص مألات الاتفاق وما تبذله بعض الجهات الداخلية على قزمية حجمها لإيقاف مساعي العودة بين تركيا وسورية، فالأمر كبير إذ يجمع بين قوة إقليمية أعلت من شأنها على حساب محيطها من جهة وبين دولة تكالب عليها الكثير فقسمت العالم بين صديق وعدو وأتفق مع البعض حول عبثية جهود الجولاني للتواصل مع الاستخبارات الأمريكية ” لمنع تنفيذ اتفاق سوري تركي مدعوم من روسيا وايران والدول العربية”
وفي إشارة إلى وحدة المخاطر الأمنية المهدّدة لأمن الدولتين الجارتين فقد حاول وزير الخارجية الروسية لفت الانتباه إليها مشيراً أنّ الولايات المتحدّة تجمع الفصائل المسلّحة وبقايا تنظيم داعش مع بعض قوات العشائر حول مدينة الرقة، وهذه المعلومات التي تحدّث عنها لافروف – من الصحيح- أنّها تستهدف تركية كما سورية، ولكنها ترتبط بشكل أعم بطبيعة الخطة الأمريكية في سورية، وهذا لها أهميتها الخاصة بحد ذاتها والموازية للمشروع التركي سابقاً، فلا يمكن التقليل من شأن القراءات الأمريكية لواقع ومستقبل المحادثات بين سورية وتركيا في ظل المتغيرات الراهنة إقليمياً ودولياً والتي تصب في خدمة السوري، وفي هذا إشارة ودلالة أن الأمريكي في حال وقف شريكه في الناتو على حياد وسوّى أوضاعه مع سورية فإن الأمريكي مستمر بمشروعه الخاص الغير مرتبط بأي دولة أخرى سواء صالحت أو بقيت في دائرة الصراع.
وأما حجة تجميع التكتلات الإرهابية والانفصالية على الحدود المتاخمة بأنّها تهدف لتعطيل أي اتفاق عسكري بين دمشق وانقرة لترتيب مشترك للوضع في الشمال السوري، فإن هذه التحليل فيه ما فيه، لأن بالنظر للظرف الراهن سيكون سبباً حاسماً في زيادة التعاون والتنسيق لإيجاد حل لهذه المشكلة بين الطرفين، ولن يكون عاملاً منفراً ولا مهدداً لطالماً أن هذه التكتلات تهديد مشترك للأمن لقومي للطرفين السورية والتركي.
وفي سياق تحديد أسباب عدول تركيا عن سياستها تجاه سورية، وتغييرها بما يفسره السوريون بالمنحى الإيجابي، فإنّ ذلك مردّه في نظرنا إلى جملة من الأسباب:
أولاً: بدايات الأحداث في سورية كانت فرصة مناسبة لتركيا لاستغلالها كباب للصعود الإقليمي، وبعد تحقق لها ذلك وفرضت نفسها كلاعب محوري إقليميا ودولياً بكل ما يتعلق بالشأن السوري، لم يعد هنالك حاجة للتمسك بالأوراق السياسية التي أمسكتها من قبل، إذ تحولت إلى عبئ عليها في ظل الأوضاع السياسية والاقتصادية الخانقة قبل الانتخابات الرئاسية.
ثانياً: تحول المزاج الإقليمي لا سيما الخليجي تجاه سورية والذي لا ينفصل بتوافقاته وعلاقاته المتشابكة عن الطرف التركي.
ثالثاً: بخصوص ما قيل عن مخاطر قيام كيان كردي مدعوم من الولايات المتحدة في خاصرتها الجنوبية، ويتطلب التنسيق مع سورية، فإنّ هذا الاحتمال كان ماثلاً من قبل بداية الحرب على سورية، وكان مدعاة للتعاون، وليس للاعتداء على حرمة الجغرافيا السورية.
رابعاً: الإدراك المحتم بفشل مشروع إسقاط الدولة السورية وتحتم منع إقامة حكم إمارات إسلاموية إرهابية بقرار إقليمي ودولي.
خامساً: جنت تركيا كل ما أملته من مكاسب داخلية وإقليمية ودولية من استغلالها للحرب في سورية سواء ورقة اللاجئين أو دعم التنظيمات الارهابية أو التذرع بحماية الحدود والان لم يعد هناك داع للاستمرار، بل الحاجة لتسوية الملف السوري.
نعم، إن صورة المصافحة بين ” المقداد جاويش اوغلو ” هي تأكيد التطور المتسارع والثابت والاستراتيجي ، صورة تمثل البيئة الإقليمية الجديدة .