التصريح والتلويح في لقاء وزيري الخارجية الروسي والصيني … (ما بين السطور)

التصريح والتلويح في لقاء وزيري الخارجية الروسي والصيني
… (ما بين السطور)
أغلب لقاء أو اجتماع بين الدول مقرراتهم العلنية والسرية التي تطوى عن عيون الكاميرات ومسامع الصحفيين، ولكن عندما يراد من الاجتماعات والقمم والمؤتمرات إيصال رسائل علنية لأطراف أخرى، فعلى الأغلب التصريح سيد الموقف ويبقى المجال مفسوح لقراءة ما بين السطور.
أكّدت الخارجية الصينية يوم الخميس في بيان نشرته ما يلي: ” إذا وقفت قوتانا العظميتان، الصين وروسيا، جنباً إلى جنب وعززتا التعاون، فإنّ النظام الدولي سيبقى ثابتاً، والمبادئ العالمية غير قابلة للدحض، ولن تتمكن القوى الساعية للهيمنة من هزيمتنا”.
أول إشارة: ونجد في هذا التصريح الذي بُدء بـ(إذا) أداة الشرط ما يكشف عن الرغبة بتطوير العلاقات بين الطرفين أكثر من مستواها الحالي سواء عبر نسب التبادل، ونوعية المجالات، ومناطق التعاون، كيفيته، مع من ضد من، وبالتأكيد هذا الأمر سواء عُرض من قبل روسيا أو الصين سيقابل بالقبول لما بينهما من قواسم مشتركة وهذا موضوع للبحث بحد ذاته.
ثاني إشارة: لا يمكن تصوير العلاقة بين الصين وروسيا بأنّها غير متطوّرة حتى تعلّق الأمور على رغبتها بالتعاون وتطوير العلاقة بل على العكس تماماً فهي علاقات شاملة ومتطورة جداً، وذكية بما فيه الكفاية بمعنى أنّه رغم التعاون المفتوح بينهما إلا لمواقف البلدين محدداتهما الخاصّة بهما فالصين لا تزج نفسها بأي صراع عسكري وتدعو للحوار والتفاهم وهذا ما أثبته الصراع في أوكرانيا.
ثالث إشارة(تصريح): تعليق ثبات النظام الدولي على تعاون روسيا والصين ليأخذ التعاون هنا معنى الاتحاد والتحالف الاستراتيجي بينهما، والمقصود بالثبات هنا الوصول بالنظام الدولي لحالة التعددية القطبية ومنع هيمنة قطب على النظام الدولي وهي دعوة صريحة لكبح جماح سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على العالم وتسلطها السياسي والعسكري.
رابع إشارة: يشير تصريح الخارجية الصينية أنّ النظام الدولي سيبقى ثابتاً والمبادئ العالمية غير قابلة للدحض إلى حزمة القوانين الدولية التي تنتهكها امريكا وحلفائها وإلى المنظمات الدولية التي توظّف من قبل أمريكا وبريطانيا وفرنسا لخدمة مصالحها وهنا تبرز أهمية وقوف عضوي مجلس الأمن الصيني والروسي مع بعضهما البعض.
وقال وزير الخارجية الصيني أيضاً: ” نعزز التعاون الاستراتيجي بشأن القضايا الملحة، ونساهم في الحفاظ على الاستقرار في المنطقة ونلعب دوراً رئيساً في تعزيز تماسك العديد من البلدان النامية”.
خامس إشارة تلويح: في هذا القول إشارة إلى الدور العالمي للصين وروسيا والذي يوصف بأنّه دور مثمر وبناء باعتراف الدول التي تتواجد فيها هذه الدول أو التي يمتد نشاطها إليها، وفي هذا رسالة عكسية أيضاً تظهر الدور المقابل الذي يمارسه القطب الأحادي سواء تفكيك الدول، نهب ثرواتها، ملى العالم بالقواعد العسكرية، وزرع الفوضى والاحتلال وضخ الأسلحة وتخريب التنمية المستدامة خصوصاً للدول النامية التي تعتبرها فريسة، وهذا القول لوزير الخارجية تروج واضح للنموذج الروسي والصيني في مجالات التحالف والتعاون، ودعوة مبطنة لمن يريد الانضمام بغية توسيع هذا الحلف.
ومما قاله أيضاً وزير الخارجية الصيني:” أن الصين وروسيا لا تسمحان بتسييس مشكلة الجائحة، وتعارضان بشكل مشترك تدخل بعض الدول في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وأضاف: “نعارض العقوبات الأحادية “.
سادس إشارة: في هذا القول إشارة لشجب هذه التصرفات المخلة بالقوانين الدولية والتي لا تخدم الأمن والاستقرار العالميين، حيث إن غالبية الدول التي يتم التدّخل بشؤونها تقف مكتوفة الأيدي إزاء حجم المؤامرات والخطط والإمكانيات الموضوعة ضدها ونادرة هي الحالات التي تمكنت فيها الدول من إنقاذ نفسها عبر التحالفات مثل سوريا التي استعانت بحليفها الروسي وكازخستان بالروسي أيضاً. وهذا شجب ورفض لسياسات الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، ومما ينص عليه منطق معارضة الشيء؛ أن تقف ضده وهذا إشارة إلى وقوف روسيا والصين إلى جانب الدول التي تتعرض للتآمر على أمنها وسلامتها، إذا أنّ هذا التآمر يثبت الصراع المبطّن لالتهام المزيد من الدول على حساب دول أخرى.
وأخيراً قال وزير خارجية الصين: “يجب أن نعطي زخماً للانتعاش العالمي، ونوفّر فرصاً مواتية جديدة للاقتصاد العالمي”.
سابع إشارة: أي إنّ ما أعلنته من مشاريع تنموية واستثمارية واقتصادية على مستوى العالم من قبيل مبادرة الحزام والطريق سيتم الاستمرار بها والعمل على تنفيذها مهما واجهت من تحديات نظراً للنفع العالمي المترتب عنها والذي إنّ وسّع نفوذ الصين فإنّه لن يضر عسكرياً بأمن الدول التي يمر منها على عكس ما تقوم به الألة السياسية والاقتصادية والعسكرية الأمريكية، وبالمجمل قول الوزير الصيني إشارة صريحة إلى المزيد من الشبكات الاستثمارية في العالم.
بالمجمل هناك الكثير من الإشارات التي يوحي بها اللقاء الروسي – الصيني ولكنها تصب في خانة التأكيد على ما صرّح به وزير الخارجية الصيني في تاريخ 17/3/2022م، حيث وصف العلاقة بين الدولتين هي الأكثر أهمية على صعيد العلاقات الثنائية، وتصل لمستوى “شراكة استراتيجية” مؤكداً أن تعاونهم يقدّم مصلحة للدولتين ويساهم في إرساء الاستقرار والتنمية في العالم، وهذا أراه أمراً طبيعياً في سياق ما يجمع الدولتان من قواسم مشتركة من جهة وما يواجهان من تحديات مشتركة أيضاً، وما تحتمه عليهما طبيعة النظام الدولي وميكانيزما إدارته من قبل الدول المتنفذة ممثلة بالأمريكي وحلفائه هذه الممارسات التي تهدّد أمن الصيني والروسي ذاتهما، الأمر الذي يحتم عليهما العمل على إيجاد ألية لضبط النظام الدولي للوصول لصيغة تخدم التوازن هذا التوازن بغاية منع الاعتداء والإلغاء بغية ترك الدول تسير شؤونها وتحقق مقتضيات أمنها وتطورها بالشاكلة التي تراها، وفي أسوأ الحالات سيخلق حالات مجابهة متكافئة بين الدول التي ستقوقع ضمن محاور في حالات الانتهاك والتهجّم وفرض العقوبات كما يحدث اليوم في عالم الأحادية القطبية.
وبالتحليل إنّ هذا اللقاء وما تم التصريح به جاء نتاجاً لمجموعة من المعطيات المشجعة والتي تجبر العالم على الإقرار بوجود أقطاب دولية بوسعها إيجاد كفة موازية للقطب الأحادي وكفه والحد من تسلطه وسياساته الغير قانونية الأمر الذي أمده الرئيس الصيني تشي بينغ والروسي أيضاً مطلع عام 2022م ومن أهم هذه المعطيات اتفاقين جديدين في قطاع النفط والغاز مع الصين بقيمة 117.5 مليار دولار، في ظل ظروفٍ دولية راهنة تحاول فيها الولايات المتحدة في ظل إدارة بايدن أن تعيد تركيز أولوياتها على المنافسة مع بكين في آسيا والمحيط الهادئ بنية تطويق النمو الصيني، إضافة إلى التوتّر الغير مسبوق بين روسيا من جهة والولايات المتحدّة الأمريكية وحلف الناتو من جهة أخرى بشأن أوكرانيا، ونجاح روسيا في فرض إرادتها العسكرية والاقتصادية على أعدائها الأمريكي والأوربي، الأمر الذي يشجّع على الإقدام لمثل هذه اللقاءات الدبلوماسية والتحضير للمزيد من الاتفاقيات بالمجالات كافة وتوسيع نطاق استقطابهما الدولي، وأقول بكل بساطة مهما يكن من أمر القوة الأمريكية أي كان نوعها لم تعد تخطي الإرادة الصينية والروسية منفردتين فكيف في حال اتحادهما، وعلى كل حال لم يعد القوة تقاس ببعدها العسكري فالأسلحة الكبرى معدة للردع ليس للاستخدام نظراً لما ينجم عنها، ويبقى البحث بالعلاقات الروسية – الصينية من حيث تاريخها ومجالاتها ومحدداتها والقواسم المشتركة والتحديات أمر بحثية أكاديمية بحتة أعمق من أن يستوعبها مقال.
الدكتور ساعود جمال ساعود