مع انهيار الاتحاد السوفيتي في تسعينيات القرن الماضي انهارت أحلام الإمبراطوريات إلى غير رجعة، وأصبح انقسام العالم إلى دول منفردة تتكتل أحياناً وتنفرد أحياناً أخرى سيد الموقف، وتبع ذلك اصطفاف دول العالم في محاور متناقضة تضمن التوازن على الساحة السياسية الدولية وعدم انفراد أحد بزعامة العالم.
لا نعرف إن كان حلم الاتحاد السوفيتي ما يزال يراود الروس لنفسر ما قاموا به من ضم روسيا للقرم في 2014م، والعملية العسكرية الروسية اليوم في أوكرانيا، وتحدي الإرادة الأمريكية في الشرق الأوسط، وتقوية عرى التواصل مع الصين ” العملاق الأسيوي” وغينتي رها من الأدوار الروسية السياسية الشجاعة التي أفزعت ودفعت حلف الناتو إلى تعزيز حضوره في المنطقة (شرق أوربا) لدرء المخاطر المحتملة من وجهة نظره، في وقت ضاعفت فيه واشنطن إنفاقها العسكري بهذه الدول إلى 4 مرات، فدول البلطيق مثلاً كانت ومازالت تشعر بالقلق من المناورات العسكرية الروسية قرب حدودها، وكذلك لاتفيا وليتوانيا أعلنتا تعزيز جيشهما.
أدت قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) عام 2016م، والتي عُقدت سابقاً في وارسو في وارسو إلى زيادة حدّة التوتر في شرق أوروبا نظراً لتعهد الحلفاء بالالتزام بتوفير حضور متقدّم ومعزز في أراضي بلدان البلطيق وبولندا ، كان ذلك دلالة توتر وقلق صريحين من قبل دول الناتو، فقد عكست أيضاً رغبة الناتو في تقييد حركة روسيا – منذ ذاك الوقت بشكل علني – واجبارها على الالتزام بحدودها الراهنة، وعدم تجاوز حدودها السياسية بشكل يمس بحدود الدول الأعضاء في الناتو التي كان فيما سبق جزء من الاتحاد السوفيتي، مما يشير صراحة إلى أن شبح عودة الاتحاد السوفيتي مازال يخيف دول الناتو إلى يومنا هذا.
وللتدليل على المنعكسات السلبية لقمة دول الناتو نذكر أنه على الرغم من وجود اتفاق عام 1997م بين الناتو وموسكو الذي يقضي بعدم نشر قوات مقاتلة كبيرة على الحدود بين الحلف وروسيا، وفي غياب قاعدة دائمة، فقد تم انتهاك هذه الاتفاقية حين رجّح قادة حلف شمال الأطلسي خلال القمة سالفة الذكر نشر أربع كتائب عسكرية، يبلغ قوام كل واحدة منها ما يقرب من 1000 جندي في كل من إستونيا ولاتفيا وليتوانيا وبولندا، والتي تشعر بأنّها مهدّدة بسبب الخطوات التي اتخذتها روسيا في أوكرانيا، وتم طرح دعم نشر لواء في رومانيا، وأعلنت بريطانيا آنذاك أنّها سترسل 500 جندي إلى إستونيا و150 آخرين إلى بولندا.
إغضاب الدب الروسي خطأ استراتيجي للناتو، فعلام يدّعون الذكاء؟ لقد جاءت التحرّكات سالفة الذكر رغم التحذيرات المتكرّرة من جانب موسكو من أن توسع الناتو شرقاً يهدد أمنها القومي، ولكن الناتو كان يتصرف حيال ذلك بشكلية وسطحية، ولقد كان من الأفضل له أن يصغي لنصيحة وزيرة الدفاع الألمانية أورسولا فون دير لاين التي قالت: إن الحلف الغربي في حاجة للحفاظ على استراتيجيته المزدوجة في التعاملات مع روسيا « دوماً وبهدوء وجدية».
أما الرد الروسي فقد جاء ليوحي بعدم رغبة روسيا بأي عمل توسعي بالشكل الذي تروّج له دول الناتو وتعمل على ترسيخه عبر الإمدادات العسكرية المكثّفة إلى الدول المحيطة بروسيا، ومن الأدلة على ذلك تعلّيق الكرملين على القمة سالفة الذكر قائلاً: إنّه يأمل في أن يسود المنطق السليم في قمة دول حلف شمال الأطلسي في وارسو، ووصف حديث الحلف عن أي تهديد روسي بأنه سخيف.
وقال المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف خلال مؤتمر صحافي أنّ موسكو كانت ولا تزال مستعدّة للحوار والتعاون مع الحلف، وبناء على هذه التصريحات الروسية الإيجابية يمكن طرح سؤال التالي: ما الذي كان يقلق الناتو منذ ذاك الوقت؟ وهل كان هناك من يحاول إيجاد وهم لدى الناتو بأن روسيا عدو شرس لديه سياسات توسّعية راهناً ويجب إيقافه عند حده؟
كانت خطورة تحركات دول الناتو تنبع من كونها تهدد الأمن القومي الروسي في شرق أوروبا، والدليل ما أعلنه وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو: “تتواجد على أراضي دول أوروبا الشرقية أكثر من 30 طائرة قتالية، وأكثر من 1.2 ألف آلية عسكرية، وأكثر من ألف عسكري من دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة”، مما كان يدفع للتساؤل عن الغاية من كل هذه الحشود؟
أجاب حلف الناتو آنذاك مدافعاً عن نفسه أنّه يواجه ضغوطاً الآن على حدوده الشرقية وفي منطقة البحر المتوسط، ومن ثم برر تصرّفاته بقول وزير الدفاع البريطاني مايكل فالون بقوله: “نحتاج للاتحاد وراء خطة واضحة لردع أي اعتداء وتهديدات نراها”.
لا يمكن لما حصل في شرق اوربا من إغفال الدور الاميركي في تأجيج الوضع هناك بشكل يؤكّد وجود مصلحة خفية، غير تلك المعلنة بخصوص التزامها بأمن الدول الأعضاء في الناتو. حيث عملت على تشجيع قرار الدول بالانتشار حول الحدود الروسية بهدف زعزعة الاستقرار الروسي، وقامت بوضع منظومة الدفاع الصاروخي تحت قيادة الحلف دون أن يغير ذلك من الحقيقة التي مفادها: ” أن الولايات المتحدة الأميركية هي صاحبة النصيب والمساهمة الأكبر في هذه المنظومة”، حيث أدّت التصرّفات الأميركية لإثبات شكوك الروس بالمطلق التي مفادها أن الناتو أداة أميركية لتضييق الخناق حول روسيا.
كان هذا ليعود بالذاكرة إلى زمن التنافس والحرب الباردة بين الناتو نفسه وحلف وارسو ليكون هذا التصرّف بمثابة حرب مخفية ضد روسيا تحاول منعها من تجاوز حدها، وإجبارها على التخلي عن حلم عودة الاتحاد السوفيتي، ودليل ما سبق ما قاله رئيس مركز الدراسات والتحليل الجيوسياسي الجنرال المتقاعد ليونيد إيفاشوف، إن توسع الحلف “يكشف الأكاذيب الغربية والادعاءات بأن الناتو لا يشكل خطرا على أحد”. وكذلك تصريح مدير مركز الدراسات والتحليل الروسي ألكسندر غوسيف في عام 2016م: ” الناتو بأنه قد تحوّل إلى ذراع ضاربة للغرب لبسط سيطرته على العالم، وامتلاك أدوات النفوذ السياسي والسيطرة على موارد الطاقة”.
وفي ما يتعلق بكيفية تجاوب قادة الناتو مع التحركات الأمريكية، فالتواطؤ كان ملحوظاً. فقد رحب الأمين العام لحلف شمال الأطلسي بأنباء تعزيز الوجود الأميركي في الدول القريبة من الحدود الروسية، ورأى في ذلك “مؤشراً واضحاً إلى الالتزام الطويل للولايات المتحدة بأمن أوروبا”.
وبعد هذا كان تعليق موسكو على لسان المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا: أن “موسكو لا تفهم ما الدافع إلى هذه التحركات، ونرى أنّها لا تهدد روسيا فقط ولكن الاستقرار الاستراتيجي والأمن المفترض أنه سائد في أوروبا”.
أقامت الولايات المتحدة منظومة الدفاع الصاروخي في أوروبا التي يتولى قيادتها حلف الناتو بعدما نجحت فرنسا في الحصول على ضمانات، بأن النظام الذي تكلّف بناؤه مليارات الدولارات لن يكون تحت السيطرة المباشرة لواشنطن، حيث تعد الدرع الصاروخية التي توصف بأنها تهدف للتصدي لأي ضربة من دولة مارقة على مدن أوروبية، أحد أكثر جوانب الدعم العسكري الأمريكي لأوروبا حساسية. في حين تقول روسيا إن واشنطن تقصد بهذه المنظومة إضعاف ترسانتها النووية لكن الولايات المتحدة تنفي هذا الاتهام لن ينفع تهديد الناتو لروسيا، فحتى الأعضاء الأوروبيين يعتبرون حلف شمال الأطلسي على أنّهم لن يجنوا شيئاً من استفزاز روسيا موردة الطاقة الرئيسية لهم.
والجدير بالإشارة أن حلف شمال الأطلسي جهّز قوة ردع في بولندا ودول البلطيق بعد أن ضمت روسيا شبه جزيرة القرم في 2014م، رغم ما قاله الجنرال الأمريكي دينيس مرسييه أنَّ “الهدف من هذه الدرع هو منع انتشار التهديدات الصاروخية وليس ضد أي بلد، وبالأساس ليس ضد القدرات النووية لروسيا”.
وهذا يناقض الهدف الذي حدده حلف شمال الأطلسي بحماية دوله من الصواريخ الإيرانية بعد الاتفاق النووي التاريخي الذي وقعته طهران مع القوى الدولية (5+1)، والذي ساعدت روسيا في التوصّل إليه، ولم تخف وزارة الدفاع الروسية انزعاجها، حين أعلنت أن نشر قوات أميركية جديدة في بولندا والبلطيق هو أكبر عدوان يشنه البنتاغون والناتو منذ الحرب الباردة ، وأن روسيا سترد وترفع عدد قواتها على الجبهات الغربية الاستراتيجية، واحتمال تعزيز الانتشار العسكري الروسي يدق ناقوس الخطر في أوروبا.
فقد استمر العمل على عزل روسيا عن محيطها في أوروبا الشرقية وجمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقاً والبلطيق والقوقاز وآسيا الوسطى، بالإضافة إلى التدّخل في الشؤون الداخلية لهذه الدول وفرض إملاءات عليها، وهو “ما خلق شعوراً مريراً بالإهانة لدى غالبية الروس، لا سيما النخب السياسية والعسكرية والوطنية”، وكانت موسكو قد أعلنت مراراً أنّ الحرب الباردة قد انتهت، لكن تبين لاحقاً أن الغرب كان يسعى لاحتواء روسيا وتحويلها إلى تابع لسياساته، وهذا ما دفع موسكو لاعتماد مسار مغاير يتسم بالاستقلالية والسعي للحفاظ على المصالح الوطنية، خصوصاً بعد مجيء الرئيس فلاديمير بوتين.
الظاهر للعيان والعلم أجمع بما فيهم البسطاء أنّ هناك رغبة بتحجيم الدور الروسي لا سيما بعد استفحاله في مناطق متعدّدة من العالم كالشرق الاوسط ذو الأهمية الاستراتيجية بالنسبة لدول الناتو، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية الطرف الرئيسي أثناء الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي، وهو الأمر نفسه تقريباً بين روسيا الاتحادية من جهة والولايات المتحدة الأميركية مستخدمة المؤسسات السياسية الكبيرة في الغرب لتحقيق أهدافها كحلف الناتو مثلاً.
لقد سبق أن أشار المسؤولين الروس إلى استخدام الولايات المتحدة للحلف كأداة لتحيق سياساتها، ولعل تحفيز واستثارة باقي دول الناتو للتحرك في أوروبا الشرقية ودعمها بالعتاد والميزانية، إضافة إلى ما تقدمه باقي الدول، دليلاً يكشف نوايا الطرف الأميركي الذي يرغب بتحجيم الدور الروسي في السياسة العالمية، لا سيما بعد النجاحات التي حققها الروس في الشرق الأوسط وتحديداً بالمنطقة العربية، بعد أن كانت واشنطن تنفرد بحيازة امتياز تواجدها في الأجواء العراقية، وتنفرد تقريباً بالأجواء السورية، دخل سلاح الجو الروسي الذي اقتحم المشهد العسكري السوري بقوة أزعجت وأغضبت الأميركيين، وهكذا أصبح القطبان الكبيران يتواجدان وجهاً لوجه على الساحة السورية مثلاً بأهداف متضادة حد التصادم.
لقد كان لهذا مدلولاً سياسياً يتعلّق في إطار صراع النفوذ المتجدد بينهما في الشرق الأوسط، وحتى في العراق ما أن شاهدت حكومة بغداد نتائج «العمل» الروسي في سورية حتى أرسلت إشارات إلى روسيا تطلب فيها المساعدة نفسها التي حصلت عليها سوريا، فسارعت موسكو لتلقف هذا الطلب، ما أغضب واشنطن التي كانت أعربت عن استيائها لبغداد من استضافتها مركز معلومات استخباراتي عراقي- سوري- روسي- إيراني مشترك تم الإشارة له بـ (4+1) إلى إضافة إلى حزب الله اللبناني.
أما القسم المبطّن من التحليل، فإنّ الطرفين الروسي والناتو يشكّل كلّاً منهما عامل رعب للآخر. فالروسي تحرّك فعلاً في ما سبق ويتحرّك الأن في أوكرانيا؛ إذ لا تهاون في مسائل الأمن والوجود الروسي، والآن يملك القدرة للتحرّك أكثر، ومن باب إيقافه عند حدوده الحالية وعدم توسعه فالناتو يعزز وجوده في كل مكان يحتمل توسع روسيا فيه واليه.
ومن زاوية أخرى تعتبر دول الحلف التي يجمعها ميثاق مشترك أن توسّع روسيا وعدم رد الناتو سيضعف الحلف ويظهره عاجز بنظر الدول المشكّلة له. ومن هنا فحلف الناتو مجبور على تكثيف تواجده والرد فيما لو توسّعت روسيا في شرق أوروبا، مما يعني حرب فعلية عالمية ثالثة، والأمر كان متوقّف على تحرّك روسي، والان بعد تكثيف الناتو لوجوده، فالأمر متوقف على كلا الطرفين، والدليل ما قاله الأمين العام للأطلسي ينس ستولتنبرغ في فترة سابقه:” إن الوزراء الذين يجتمعون في بروكسل سيوافقون على تعزيز وجودنا المتقدم في الجبهة الشرقية للحلف”، وأكد أن “هذا الأمر إشارة ، قوية إلى وحدة الحلف في حال التعرض لهجوم مهما كان مصدره فإن الحلفاء سيردون”.
المهم هنا كانت بعض الدول الأوروبية ترى أن أميركا هي جزء من المشكلة، وثمة شعرة فاصلة بين طمأنة حلفاء قلقين وبين النفخ في التوترات من جهة، وبين مساندة الحليف الأوكراني وبين دعمه من جهة أُخرى، وكان هناك احتمال لحدوث مواجهة بين روسيا و«الناتو» قد تنزلق إلى حرب نووية كبرى، وما زال هذا الاحتمال قائماً لغاية الوقت الراهن حتى في ظل الوقت الراهن الذي يشهد عملية عسكرية خاصّة في أوكرانيا بعد التصعيد الذي حدث فيها أوكرانيا من ووعود من قبل دول الناتو بالتدخل لصالح أوكرانيا ضد روسيا إلا أن الأحداث جرت على عكس ذلك حيث ترك الناتو أوكرانيا تواجه مصيرها الأسود مع تدخل عسكري واقتصادي خجول لا يذكر.
إنّ المقصود بعودة الاتحاد السوفيتي هنا مقدرة روسيا على التوسّع وإعادة الدول التي انفصلت عن الاتحاد سابقا وضمها لها برضاها أو بالقوة، وبعد هذه القراءة والسرد التاريخي نعود للسؤال الرئيسي: هل سيسمح الناتو بعودة الاتحاد السوفيتي إلى الحياة السياسية؟
أقول بكل ثقة لن تكون عودته إلا بالقوة العسكرية أو التلويح بها سواء لضم الدول قسراً أو طوعاً، ولكن الناتو لن يرضى بذلك وهذا يعني مواجهات عسكرية علنية أو غير معلنة في المستقبل، ويكفى أن نقول إنّ أحداث أوكرانيا كشفت الكثير الكثير فااناتو يخاف روسيا وتكبلهم بالقيود رغم قوتهم.
بقلم الدكتور ساعود جمال ساعود