لا تزال تدمر “لؤلؤة الصحراء” وواحة العصور الغابرة تكتنز من السحر والجمال ما يثير فضول السياح وعلماء الآثار وإلهام الشعراء، بما تحتويه من معابد مذهلة ومقابر فريدة وشوارع مليئة بالأعمدة الضخمة، فبرزت من بين رمال الصحراء كواحدة من أجمل المواقع الأثرية في العالم بسحرها وهيبتها وغموضها وكملتقى للقوافل التّجاريّة.
تدمر على طريق الحرير…
يقول الباحث الآثاري الدكتور خليل الحريري: “إن اسم طريق الحرير أطلق على الطريق الواصل بين الصين وروما من قبل الرحالة الألماني فرديناند فون ريتشهوفن عام 1860، خلال رحلاته العديدة الى مناطق الشرق نتيجة أهمية الحرير التاريخية والعلمية والحضارية والاقتصادية”.
ولعل موقع تدمر المتميز في قلب بادية الشام، وفي منتصف الطريق بين مدن حوض الفرات شرقاً ومدن الساحل السوري غرباً جعل طريق الحرير الأقصر مسافةً والأفضل عبوراً والأكثر أمناً وسلاماً للقوافل التجارية، بما تحمله من مشغولات ونفائس مهمة، إضافة إلى المنسوجات القطنية والصوفية والأرجوان والزجاج والعطور والبخور والتوابل والزيوت.
تنوع الثقافات والازدهار الاقتصادي في تدمر…
وأضاف الحريري: “إن تنوع الثقافات بتدمر نتيجة حتمية لوقوع تدمر في محيط ثقافات متباينة، كما برع التدمريون في إعداد نظام القوافل القادر على اجتياز مسافات طويلة وتسهيل مرورها، وكانت “الآغورا” بتدمر “السوق العامة” مركزاً للتبادل الثقافي والتجاري والاجتماعات”، فالازدهار الاقتصادي الناتج عن التجارة ومرور طريق الحرير بتدمر جعل منها عاصمة الغنى والرفاهية والسلام والأحلام، وأسهم في تقدمها العمراني والفني والثقافي والاجتماعي.
وأكد أن قوام الدولة التدمرية مدين للتجارة بحكم مرور طريق الحرير بها، وجعلها من أهم مراكز طريق الحرير التجاري، والذي ساعدهم على الاتصال بالعالم الخارجي، حيث نقلوا ثقافات الأمم إليها، وبالمقابل نشر ثقافة وطنهم في كل الأصقاع التي وصلوا اليها وفي جميع نواحي الحياة.
تحدث الدليل السياحي موسى فليح عن تدمر قائلاً: “تدمر تروي ظمأك من مياه نبعها المقدس وترتاح وتتفيأ في واحتها تحت أشجار النخيل والزيتون بجوار معبدها، وتندفع لتكتشف جمال وسحر عروس الصحراء، وإن تدمر لم تكن مغمورة في التاريخ رغم بعدها في عمق البادية السورية وجاء ذكرها في حوليات الملك الآشوري تفلات بيلاصر الذي عاش في القرن الـ 11 قبل الميلاد، ولطالما كانت لغزاً ومصدر إلهام للكتاب والمغامرين والسواح.
وأوضح فليح أن سحر الشرق جذب النساء كما الرجال، فتتابعت رحلات الأوروبيين للشرق، منهم الليدي “هستر لوسي ستانهوب “التي قالت في انطباعها عن تدمر: “ليس في بادية سورية سوى تدمر واحدة، كما أن السماء ليس فيها غير شمس واحدة”، أما الليدي “جين دغبي” التي تنتمي لعائلة إنجليزية عريقة قامت برحلة إلى سورية عام 1852 ميلادي فقالت عن تدمر: “إنها تشبه كوكبة من الفرسان تسير في نسق واحد”.
الطيار” جان مرموز” من سلاح الطيران الفرنسي، وقد كلف العمل في الشرق الأوسط، وأرسل إلى مطار تدمر قال: “إن الصحراء لوحدها تعطي معنى الألوهة، فكيف إذا عرفنا أن فيها أقامت قديما ملكة حازمة وجميلة، وأنها صارت مركز إمبراطورية واسعة وما بقايا الأعمدة إلا دلالة على المستوى الرفيع الذي بلغته”.
ويقول الباحث الفرنسي جورج تات في كتابه “تدمر بندقية الصحراء”: “إن تدمر ومنذ أن تم التعرف عليها من قبل تجار إنجليز كانوا قادمين من حلب، وبعد معرفة لغتها وترجمة نصوصها صارت تتراءى كمدينة خيالية بسبب أوابدها التي تبدو في وسط الصحراء، مثل السراب أو اللغز”.
زنوبيا ملكة تدمر وريثة حضارتين…
وبالحديث عن الملكة زنوبيا أشار فليح إلى أن زنوبيا ابنة تاجر تدمري وأم يونانية تكلمت الآرامية والقبطية واللاتينية واليونانية، وتمتعت بحكمة وعقل وسياسة، فكانت شديدة البأس فائقة الجمال، وعاشت بعظمة مقلدة ملوك الأكاسرة وأباطرة الروم، وغدت تدمر وملكتها النبيلة الشجاعة في العالم الغربي بعد عصر النهضة أسطورة تأسر الألباب.
ذكريات الراحل خالد الأسعد في تدمر…
يستذكر محمد خالد الأسعد آخر كلمات نطقها والده الشهيد عالم الأثار خالد الأسعد “نخيل تدمر لا ينحني” قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة على يد الإرهاب التكفيري في الثامن عشر من شهر آب سنة 2015 في بهو متحف تدمر الوطني المكان الذي عشق وأحب لأكثر من نصف قرن، فأنزل في ساحة المتحف حافي القدمين مكبلاً بالسلاسل غير هيّاب للموت.
وقال محمد الأسعد خلال فعالية ثقافية نظمها ملتقى أورنينا الثقافي بالتعاون مع كاتدرائية الروح القدس في حمص القديمة: “إن كانت تدمر العظيمة في أيام ألقها ومجدها هبة الدنيا إلى الحضارة الإنسانية، فإن ابنها البار خالد الأسعد هو هبة تدمر إلى الثقافة البشرية”.
شهيد تدمر خالد الأسعد في سطور…
وعن نشأة ومسيرة خالد الأسعد بين محمد أنه ولد في رحاب التاريخ جوار معبد بل في الحادي عشر من كانون الأول عام 1933، وترعرع في بيئة ريفية ضمن عائلة عريقة اتسمت بالحكمة والمودة والألفة والمحبة، ودرس في مدارس دمشق، ثم التحق بجامعتها ليحصل منها على إجازة في الآداب قسم التاريخ، ونال دبلوم التخصص في التربية، ولشدة عشقه الفطري لمدينة تدمر اتجه نحو العمل الأثري، وتم تعيينه عام 1962 رئيساً لدائرة الحفريات والدراسات الأثرية لدى المديرية العامة للآثار والمتاحف، وانتقل مطلع 1964 ليترأس دائرة الآثار والمتاحف في تدمر حتى نهاية خدمته في عام 2003.
تلك الفترة عمل مع زملائه العرب والأجانب على تطوير المؤسسة الأثرية العاملة في تدمر علمياً وإدارياً للنهوض بموقع تدمر الأثري والحفاظ عليه وكشف معالمه وترميمه وتقديمه بشكل حضاري يتناسب مع أهميته وشهرته، وعمل على نشر الأبحاث الأثرية والتاريخية المتعلقة بالموقع وإتاحتها للراغبين بدراستها والاطلاع عليها، واستطاع أن يسبر أغوار المدينة ونفذ ببصيرته إلى عمق كل منحوتة أو رسم أو نقش، واستطاع أن يظهر الثراء الفكري والسمو الروحي عند قدماء التدمريين.
وآخر الأبحاث التي كتبها الشهيد خالد الأسعد وأرسلها للنشر في مجلة “مهد الحضارات ” كان بعنوان “عادات وشعائر الموت عند قدماء التدمريين”.
ويختم محمد الأسعد حديثه عن والده قائلاً: “سمعته يردد دائماً “من واجبنا كآثاريين وباحثين ومؤرخين أن نعيد إلى بلادنا وأرضنا وآثارنا بهاء الماضي وشعاعه وأن نستنطق كل أثر ليبوح بأسراره؛ لنقيمه لبنة شامخة في صرح حاضرنا المتجدد ومستقبلنا الواعد”.
يشار إلى أن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونيسكو” كانت قد أدرجت تدمر على قائمة التراث العالمي ضمن ستة مواقع على القائمة الرئيسيّة في سورية، وصنفت جميعها ضمن الفئة الثقافيّة.