لم يكن افتتاح أولمبياد بكين الشتوي في الرابع من فبراير/ شباط 2022م حدثاً عادياً كسابقه بل كان فرصة لتعزيز أواصر العلاقات مع الدول المشاركة بالافتتاح لا سيما على الصعيد الصيني- الروسي، حيث اجتمع الرئيسان الصيني والروسي عبر لقاء خاص أسفر عنه جملة من المستجدات السياسية والاقتصادية والعسكرية والتي خلقت مجالاً للتفاسير والتحليلات بشأنها بين من أعتبرها مفاجأة نوعية وأخر تحولاً عالمياً نوعياً وأخر حدثاً متوقعاً استناداً إلى سجل العلاقات الحافل للبلدين.
فعلى الصعيد السياسي شجب الرئيسان الصيني والروسي ما سمياه “التأثير السلبي” لنفوذ الولايات المتحدة على الاستقرار والسلام العادل في العالم عموماً ومصالحهما وأمنهما خاصّة، في رسالة سياسية تحذيريه واضحة، وتصريح علني بوقوف الصيني والروسي معاً، حيث أكدا أنهما “يعارضان أي توسيع للحلف الأطلسي مستقبلاً”، كما في حالة أوكرانيا ومساعي ضمها ليصبح الناتو بذلك على الحدود الروسية؛ الأمر الذي يهدد الأمن القومي الروسي، وهذا التنديد رسالة واضحة للولايات المتحدة الأمريكية بخصوص أوكرانيا، علاوة على التأثير المخل بالأمن والاستقرار في مناطق أخرى من العالم كتواجد القوات الأمريكية في سورية، كذلك دورها الواضح اليوم في الأزمة اللبنانية، وممارساتها ضد العراق وكوريا الشمالية وإيران هذه الدولة التي تعهد الطرفين الروسي والإيراني في 8/يونيو/2018م بالحفاظ لها على برنامجا النووي ضد التهديدات الأمريكية، ليخرج الرئيس الأمريكي مباشرة بعد اللقاء الصيني الروسي ومن منطلق درايتهم للارتدادات التي يمكن أن تنجم عنه ليرفع بعض العقوبات عن البرنامج النووي الايراني لتستمر مفاوضات فينا بنجاح ولو بشكلٍ نسبي.
وعلى الصعيد العسكري نددت موسكو وبكين بـ”التأثير السلبي لاستراتيجية الولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ مبدية “قلقهما” لإنشاء تحالف “أوكوس” العسكري بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، لأنّ من شأنه تهديد الأمن والاستقرار، وجر دول المنطقة لسباق تسلّح الأمر الذي من شأنه عودة الحرب الباردة وهذا ما لا يخدم الأمن والسلم الدوليين، والأجدر بالدول التفرغ لشؤونها التنموية الداخلية بل الانجرار وراء استنزاف القوة الاقتصادية خدمة للتسلّح وتكاليفه، كما أنّ هذا التحالف يزيد مستقبلاً من احتمالات الانجرار إلى صراع عسكري الأمر الذي تحتمه التناقضات الايديولوجية والمصالح الاقتصادية والسياسية.
وعلى الصعيد الاقتصادي كشف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن اتفاقين جديدين في قطاع النفط والغاز مع الصين بقيمة 117.5 مليار دولار، في ظل الظروفٍ الدولية الراهنة الي يمكن نعتها بالمتوترة حسب ما تبدو عليه للمراقبين، هذه الظروف التي تحاول فيها الولايات المتحدة في ظل إدارة بايدن أن تعيد تركيز أولوياتها على المنافسة مع بكين في آسيا والمحيط الهادئ بنية تطويق النمو الصيني، إضافة إلى التوتر الغير مسبوق بين روسيا من جهة والولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو من جهة أخرى بشأن أوكرانيا وتزايد احتمالات نشوب صراع عسكري، مما دفع بأطراف هذا الصراع إلى اتخاذ إجراءاتهم الاستباقية الاحترازية في حال وقع الصراع فعلاً، حيث توجّه الأمريكيين والأوربيين إلى قطر بهدف الاستغناء عن الغاز الروسي الذي يمر عبر أوكرانيا، والذي تستهلك أوربا لوحدها (177مليارم3) منه، فكانت المفاجأة التي أربكت الأمريكيين والأوربيين وأخرجت روسيا من دائرة الحصار الاقتصادي عبر ما جرى توقيعه من اتفاقيات لتصدير الغاز والنفط الروسي إلى الصين التي وصفها نائب الرئيس الروسي بأنّها أفضل الأسواق العالمية للطاقة، الأمر الذي ينجم عنه تبعات سياسية وأمنية تصب لصالح الروسي في ظل صراعه الراهن.
وبالنظر لما نتج عن اللقاء من اتفاقيات، فقد جاء ذو صبغة اقتصادية أكثر من أي صبغة أخرى، ولكن هذا التطور الحاصل لا يستدعي للاستغراب والمفاجأة لأن المتتبع لتاريخ العلاقات بينها سوف يلاحظ ثلاث سمات رئيسية أولها تعدد مظاهر العلاقة من سياسية إلى عسكرية واقتصادية وثقافية واجتماعية، وثانيها التجذّر التاريخي إذا تعود لتسعينات القرن العشرين وثالثها الطابع العمومي والمميز للعلاقات والتطور التدرجي سيما في المجال الاقتصادي والأدلة كثيرة، ففي عام 1992م أعلن البلدان أنّهما يسعيان إلى «شراكة بناءة»؛ وفي عام 1996م، تقدّما نحو «شراكة استراتيجية»؛ وفي عام 2001م، وقعا معاهدة «صداقة وتعاون»، وقادهما التقارب الجغرافي والاشتراك بحدود برية إلى توقيع معاهدات حسن جوار في عام 2001م، وفيما يخص الدعم والمساندة، فقد مرّت روسيا في عامي 2008م-2009م بأزمة مالية، حيث زاد الاقتراض من الصين بشكل حاد، ومثّل الاقتراض الذي لم يدم هذا المنحى أكثر من عام أو عامين نجدة صينية لروسيا في تلك الفترة.
وشهدت العلاقات تحسناً مطرداً لدرجة أن الرئيس بوتين وصفها بالعلاقات الخاصّة على الصعد كافة لا سيما الاقتصادية والعسكرية، وذلك أثناء زيارة الرئيس الصيني تشي جيبينغ لروسيا في عام 2013م، وقيامه بتقديم الدعم لروسيا بشأن شبه جزيرة القرم التي تم إعادتها للوطن الأم روسيا، هذا العام الذي كان نقطةً فارقةً في تاريخ العلاقات بين الدولتين، حيث سجّل مستوى عالٍ من التعاون والتنسيق والشراكة الاستراتيجية، فقد بدء الشروع بإنشاء مشروع « الحزام الاقتصادي لطريق الحرير في القرن الحادي والعشرين» الممتد من الصين إلى أوروبا عبر آسيا الوسطى وروسيا بهدف القيام بتطوير البنى التحتية لهذه للدول التي يمر بها، هذه بحد ذاتها كان خطوة جيواستراتيجية جبّارة ستعود مكاسبها المستقبلية على الطرفين الروسي والصيني على سبيل التخصيص.
كانت التجارة تحتل المجال الاول من المجالات الاقتصادية بين البلدين والتي تعود إلى تسعينات القرن العشرين وقدّرت بـ 5 مليارات دولار و8 مليارات دولار سنويًا، وقد تجاوزت 80 مليار دولار في عام 2017م وفقًا لوزارة التجارة الصينية. كذلك الأمر في عام 2018م الذي شهد سلسلة من الاتفاقيات بين الطرفين في مجالات النقل البحري والتعاون الاستثماري، وصولاً لعام 2019م، حيث أظهرت الصين دعمها لروسيا من خلال صفقة غاز بقيمة 400 مليار دولار لمدة 30 عاماً، ولقد بدء ضخ إمدادات الغاز الروسية إلى الصين عبر خط أنابيب قوة سيبيريا عام 2019م، ووصلت تلك الإمدادات إلى (16،5) مليار م3 من الغاز في عام 2021م، ومن المفترض أن ترتفع إلى 38 مليار م3 بحلول 2025م.
كما جرى حديث في الأعوام السابقة على توقيع اتفاقية مبادلة العملات مع روسيا بمبلغ 150 مليار يوان (25 مليار دولار)، والتي ستجعل مبادلات العملة كلًّا من الروبل واليوان أكثر استقرارًا حسب أخصائيين في الاقتصاد، مما سيؤثّر إيجاباً على استقرار النظام المالي العالمي بعيداً عن التقلّبات والأزمات التي يخلقها الدولار الأمريكي.
وبالنتيجة إنّ اللقاء سالف الذكر، وما تمخض عنه اقتصادياً كان له دلالات سياسية تجسدت الصين لروسيا من الخسائر الاقتصادية التي يمكن أن تصيبها في حال أندلع الصراع في أوكرانيا بين روسيا من جهة وأوكرانيا المدعومة أمريكياً وأوربياً، حيث توجّه الأمريكيين والأوربيين نحو قطر في محاولة للاستغناء بالغاز القطري عن الغاز الروسي والبالغ 14إنتاجه الكلي7 مليار م3 مقارنة بالغاز الروسي البالغ 200مليار م3، كإجراء استباقي في حال اندلعت حرب عسكرية بين أوكرانيا وروسيا، إذا تأخذ أوربا من 177مليار م3 من الغاز الروسي عبر الخطوط المارة بأوكرانيا وذلك لتعويض النقص في الغاز الذي سيصيب أوربا.
والنتيجة الأهم إنّ اللقاء سالف الذكر قد جاء نتيجةً طبيعيةً ومتوقعاً ذلك لأنّ العلاقات بين الروس والصينين كانت تسير وفق نمو متتابع مطرد يشير إلى التطور باستمرار وعدم التوقف عن حد معين نظراً لكثرة القواسم المشتركة بينهما لا سيما المواقف السياسية تجاه القضايا العالمية والتي كانت سبباً رئيسياً في العلاقات المميزة والتعاون بينهما من قبيل رفض الدولتين للسياسات التسلطية للولايات المتحدة الأمريكية وممارساتها على الساحة الدولية كرفض الروس والصينين لمشروع الدرع الصاروخية المضادة للصواريخ ودعوتهم للتمسك باتفاقية الحد من انتشار الأسلحة الباليستية التي وقعت بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية عام 1972م. إضافة إلى التنسيق الصيني الروسي في أسيا الوسطى(منظمة شنغهاي) بهدف تحجيم النشاط الإرهابي والنزاعات الانفصالية وتهريب الأسلحة والمخدرات. علاوة على رفض الطرفان للتدخل في الشؤون الداخلية للدول واحترام الوحدة والسلامة الإقليمية كرفض روسيا لإقامة علاقات مع تايوان، كذلك التعاون في المجالات والعسكرية والتكنولوجي وصولاً إلى التقارب الإيديولوجي بين النظامين السياسيين في روسيا والصين، وعلى هذا الأساس يكون اللقاء الأخير وما تمخض عنه، قد جاء تتويجاً لسلسلة من المبادرات والاتفاقيات التي تمت بين الطرفين خلال الأعوام السابقة، كما أن التنسيق السياسي الروسي – الصيني جاء هي الأخرى ضمن سلسلة من المواقف الدولية التي تضامن بها الطرفان إزاء العديد من القضايا الدولية، وهذا له دلالاته المستقبلية التي توحي بأن العلاقات بينهما قادمة نحو مزيد من التعاون والتقدم في المجالات كافّة.
بقلم الدكتور ساعود جمال ساعود