خريطة جديدة للطاقة.. يرسم الصراع بين روسيا واوكرانيا وحلفائها تغيرات جوهرية في المسار الاقتصادي العالمي لدرجةٍ تجعلنا نجزم معها؛ أن هناك إرهاصات لولادة ملامح جديدة لنظام اقتصادي عالمي جديد على الأقل في مجال الطاقة وإمداداتها، هذه الفكرة التي تحتاج للإثبات هي بمثابة نظرية رياضية تنطلق من فرضية معينة يتمثّل الطلب فيها بإثبات مدى صحتها، وهذا ما سنطبقه على الفكرة التي تنطلق منها هذه المقالة.
عنوان عريض مثل (خريطة المسار الاقتصادي الجديد للعالم) لا أخفي أنّ مناقشة هذا الموضوع والذهاب لدرجة القول بأنّ هناك معالمٌ لنظام اقتصادي جديد في طريقها للتبلور هو أمر مبالغ فيه ولكن من قبيل ضرب السبق يبقى الإشارة إلى ما أفرزه الصراع بين روسيا وأوكرانيا وداعميها من تداعيات دقيقة على مستوى الطاقة تستدعي التركيز وأخذها على محمّل الدراسة من زاوية إثباتها أو نفيها، وعلى العموم أشعر أنّ هناك خريطة اقتصادية جديدة ترتسم عالمياً في ظل ما نجم من تداعيات اقتصادية للصراع في أوكرانيا يكمن الخلاف حولها بكونها دائمة أم موقتة؟! وهل رسمت بالفعل وجهاً جديداً عالمياً للطاقة ؟ نعم وموازين الربح والخسارة طالت كل طرف داخل دائرة التبادل الطاقي التي مركزها روسيا، إذاً ما هي هذه التداعيات التي شكّلت ركائزاً للخريطة الطاقية الجديدة؟ هذه التداعيات من وجهة نظري ونظر الجميع هي:
أولاً: مؤشر تبدّل في شبكات التعاون الاقتصادي بين دول العالم أو مؤشر التغير في اتجاهات التبادل التجاري، فقد نجم عن الصراع بين روسيا من جهة وأوكرانيا وداعميها على رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية من جهة أخرى تغيرات في مسار التعاون الاقتصادي بين دول العالم بشكل مختلف عمّا كان عليه قبل هذا الصراع بدليل العديد من المعطيات:
1. قطع الولايات المتحدة الأمريكية لوارداتها الاستراتيجية النفط والغاز من روسيا. حيث حظرت الولايات المتحدة استيراد النفط الروسي في 8 مارس/آذار، وتعهدت المملكة المتحدة بفعل الشيء نفسه بحلول نهاية عام 2022م.
2. اتجاه امريكا نحو إيران وقطر وفنزويلاً طلباً لمصادر الطاقة.
3. قيام روسيا باشتراط بيع الغاز بالروبل الروسي للحد من تداعيات سيطرة الدولار السلبية.
4. رفض الدول الأوربية الي ماتزال تستورد مصادر طاقتها من روسيا بدفع ثمنها بالروبل.
5. قيام بعض الدول العربية بتنويع مصادر دخلها من القطع الأجنبي على حساب الدولار الأمريكي كالسعودية الخليجية التي لا تمانع بقبض ثمن نطها من الصين باليوان.
6. بقاء بعض الدول الكبرى كالصين على مسافة واحدة مع الجميع، والتي تأخذ وضعية مركز الدائرة الاقتصادية العالمية الجديدة في ظل التغيّرات في شبكة العلاقات الاقتصادية القيد التشكّل في ظل التداعيات التي يسفر عنها الصراع الروسي- الأوكراني. وللتدليل على أهمية تدخل الصين بالنسبة لحلفائها يكفي أن نذكر ما كتبه الخبير الاقتصادي مدحت نافع أنّ ” روسيا تملك احتياطيا كبيراً من النقد الأجنبي يزيد على 635 مليار دولار، فإنّ تجميد نسبة من ذلك الاحتياطي في الخارج من شأنه أن يعجل باستنزاف ما بقى منه، خاصة إذا لم تتدخل الصين بصفتها الشريك التجاري الأكبر لروسيا، لإعادة شحن هذا الاحتياطي سريعاً من خلال مضاعفة حركة التجارة البينية مع روسيا لتعويض أثر المقاطعة”. لذا إن تحرك الصين هو تحرّك اسعافي لروسيا في حال زاد الخناق الاقتصادي عليها، المهم أن الصين لها دور وظفي باعتبارها الأقوى اقتصادياً.
7. تقلبات حادة وأزمة في الاقتصاد العالمي وأسواق المال. بدليل قفز النفط متجاوزاً 100 دولار للبرميل للمرة الأولى منذ 2014، بينما قفز الغاز الطبيعي الأوروبي بنسبة تجاوزت 60%.
بالنتيجة أفرز الصراع بين بين روسيا واوكرانيا وحلفائها خارطةً جديدة لشبكة العلاقات الاقتصادية الدولية عكس التي كانت سائدة قبل هذا الصراع ولكن هذا الأمر نسبي لأن احتمال عودة العلاقات الاقتصادية إلى مجراها أمر وارد بنسبة 90% لأنّ سياسات اليوم وحروبها منطلقها وهدفها “المصالح مع بتحييد الايديولوجيا التي أصبحت ستار، مصالح من نوع التضحية بالأداة العسكرية من أجل بقاء المصالح”.
ثانياً: مؤشر تغليب الولاء السياسي على المصلحة الاقتصادية: فعلى الرغم من العلاقات الاقتصادية العميقة بين دول الاتحاد الأوربي وروسيا من زاوية اعتماد الأوربي على روسيا في الحصول على الغاز واقمح، ورغم دراية هذه الدول بالمفرزات السلبية التي ستنال منها في اشتداد زخم الأحداث مع روسيا، ومبادرة الحرب الاقتصادية الأمريكية بحرب انتقامية، إلا أنّ هذه الدول فضّلت الوقوف مع أمريكا فيما تدعيه من مؤازرتها لأوكرانيا ضد روسيا، هذه المساندة التي تقيم وزناً للسياسي على حساب مصالحها الاقتصادية وأمنها واستقرارها هي مساندة خاطئة استراتيجيا وحتى كتكتيك وإن كان مسايرة أو رضوخاً للأمريكي، فإنها ستدفع الثمن على حساب أمنها وستقررها الاقتصادي والاجتماعي رغم التحركات التي بادرت بها بعض الدول الأوربية، بالنتيجة إنّ تغليب الولاء السياسي على المصلحة الاقتصادية للدولة حتى ولو كان التعاون مع دول معادية هو بنظري ليس سياسة مجدية.
ثالثاً: مؤشّر مقتضيات تحقيق الأمن القومي: عندما ترد روسيا على تصاعد العقوبات الغربية ضدها بإيقاف تدفق الغاز إلى أوروبا، وعندما قوم أمريكا بقطع إيرادات النفط من روسيا رغم قلة نسبتها في محاولة لإشعال فتيل الأزمة لاقتصادية بين روسيا من جهة وأعدائها من جهة أخرى؛ حرب فيها الأمريكي الأقل تضرراً، فهذا استخدام جلي للمورد الاقتصادي كرديف للسلاح العسكري مع الأشكال الأخرى للقوة عموماً، لذا نحن في الحالة الروسية – الأوكرانية وحلفائها نشهد حرباً ظاهرها عسكري وحقيقتها حرباً اقتصادية وهي عنوان حروب العصر ومصدرها ووسيلتها وهدفها هي (حرب الطاقة) التي باتت معروفه للقاصي والداني.
رابعاً: مؤشر المخاطر صعبة القياس والضبط: هذا مؤشر تقني خطير يتمثّل باستخدام الحرب الكترونية التي لها تأثير سلبي على أنظمة المدفوعات، وبحسب ما تناقلته مراكز البحث بهذا الشأن، فقد قدّر بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في نيويورك، أنّ هجوماً سيبرانياً واحداً يضعف أنظمة المدفوعات، ويمكن أن يمتد إلى 38% من جميع الأصول المصرفية، ما يؤدّي في أسوأ سيناريو إلى اكتناز السيولة والإفلاس، الأمر الذي يوحي بتطوّر خطير على الصعيد الاقتصادي سيما المالي.
خامساً: مؤشر جرأة بعض الدول على تحدي سيطرة العملة الأمريكية(الدولار) بعملتها الوطنية الخاصة. فعلى الرغم من حديث بعض الخبراء عن بداية نهاية عصر الدولار إلا أنني أعتبر ذلك مبالغة كبيرة من منطلق بسيط جداً ألا وهو عالمية استعمال الدولار لغاية اليوم مقابل محاولات فردية من قبل بعض الدول كالصين وروسيا تحصيل مقابل لصادراتها بعملتها الوطنية أو بعملات أخرى غير الدولار لمنع تراجع قيمة عملتها مقابل الدولار لزيادة رصيدها من القطع الأجنبي، وهذا يعتبر نوع من التحايل على الضغوط الاقتصادية لا سيما المالية وليس عملية مجابهه اقتصادية وصدام مباشر مع الدول الكبرى إقتصادياً، فاليوم 29/3/2022م مجموعة الدول السبع ترفض دفع مقابل الغاز الروسي بالروبل الروسي وللأسف هذه أيضاً طريقة مضادة من الدول الأوربية للتحايل على الطلب الروسي، ولكن تبقى الغلبة الحالية للدولار لكون الحد من سيطرته تتطلب تكتلات دولياً على رأسه الصين بشكلٍ علني.
سادساً: مؤشر تزايد القدرات الاقتصادية للصين بالشكل الذي يجعلها قطباً إقتصادياً مناهضاً للولايات المتحدة الأمريكية فيما لو رغبت بدخول مجابهات معها ولكنها تبتعد عن ذلك، أن الصين تعتبر الدولة الأولى على مستوى العالم في استيراد النفط، والاقتصاد الثاني عالمياً، وبإمكانها تشكيل قطب اقتصادي مناوئ للأمريكي فيما لو اضطرت لذلك، ولكن لا ننسى أن حجم التبادل التجاري بينها وبين الأمريكي جيد نسبياً يبلغ 470 مليار دولار أمريكي. يبقى ما ورد مؤشر واحتمال قائم.
سابعاً: مؤشر خارطة جديدة للطاقة، عبر شطب لاعبين، واستبدال مصادر تمويل بأخرى والبحث عن مصادر تمويل جديدة وأحياناً على حساب الحاجز السياسي ومثال هذا أمريكا التي تخوض مفاوضات فينا مع إيران التي أعتبرها جورج بوش الأبن ممّا سمّاه “دول مارقة” توجهت نحو فنزويلا وإيران كدول محتمله لاستيراد الطاقة بعد قطعها لاستيرادها من روسيا، وهذا المؤشر نتيجة البحث عن بدائل النفط والغاز الروسي. وحتماً سيقود إلى تسليط الضوء على مناطق أخرى بالعالم بشكل مضاعف أكثر من قبل مثل التزاحم نحو أفريقيا الأمر الذي قد يؤدّي إلى تصادم بين أصحاب النفوذ من الدول الكبرى.
ثامناً: مؤشر الحث على تكثيف الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة وهذا ليس فقط على مستوى الدول النامية بل حتى على مستوى الكبرى الأوربية والأمريكية في محاولة لتقليل حكر السيطرة التي هي بيد الدول المصدّرة كما حصل من تحكم روسيا بمصير الدول المستوردة لنفط وغازها كألمانيا مثلاً التي ستواجه صعوبات اقتصادية في حال قطع الطاقة الروسية عنها إذا لم تدفع بالروبل الروسي إلا إذا بحثت عن مصادر بديلة لاستيراد الطاقة وهذا سيكون مكلفاً للغاية.
تاسعاً: مؤشر اقتران التوجّهات الجديد في شبكات التبادل التجاري ببقية السلع الاستراتيجية، حيث لم يقتصر الأمر على الغاز والنفط فقط بل شمل التغيّر في شبكات التبادل التجاري سلعاً أخرى مثل القمح والسلع المرتبطة به، والمواد الأولية الأخرى مثل الحديد والألمنيوم وغيرها.
عاشراً: أظهرت أهمية الصناعات العسكرية والتكنولوجية حسب كل معسكر ومؤيديه وهذا سيعيد سباق التسلّح وإن كان غير معلن إلى مكانة الصدارة في اولويات الدول التي شعرت بالتهديد وسيكون لهذا الأمر مفرزاته الاقتصادية بكل تأكيد.
بالنتيجة إنّ التغيّر الذي سيشهده مسار التعاون الاقتصادي العالمي الجديد سيشمل خريطة التعاون الطاقوي، ولا بد أن يحتج القراء بأنّ هذه المؤشّرات عادية ولا تعتبر إرهاصات تغير شامل أو جذري في مجال الطاقة، وأقول له هذه صحيح، ولا أجزم أن الواقع الراهن سيستمر بل بالتأكيد ستعود العلاقات لما كانت عليه، وسيجدون صيغ للتفاهم مقابل عدم استمرار الواقع الراهن أي التلاعب بخريطة التبادل والإمداد في مجال الطاقة أو ملف الطاقة الذي في هو في الحقيقة مجرد وسيلة للضغط والكسر لأنه بالفعل سلاح فعال لأجله تم التسلّح بأحدث الأسلحة خصوصاً بعالم اليوم، ولكن أعود لأقول إن ما فرضته الحروب الروسية الأوكرانية هي تغيّرات آنية ليست مستمرة كان لروسيا الدور الأساسي فيها بتدشين خارطة جديدة عالمية لمسارت الإمداد بالطاقة، ولكن هذا الأمر مقترن بالصراع الحالي والذي إن كان ظاهره عسكري فإن باطنه الطاقة وروسيا عرّت الصراع من الأكاذيب المشاعة حوله، وبالتأكيد من منطلق (الاعتمادية المتبادلة وحاجات تأمين الأمن القومي للدول للتفرغ لبنائها داخلياً والتخطيط لمستقبلها بما يحتاجه ذلك من مقومات قوة على رأسها الاقتصاد سيكوون كفيلاً بعودة روسيا وأوربا وأمريكا لأحضان بعضهم البعض، وبالنهاية هو صراع كبار سرعانما يتم تسويته ولا ينبغي لنا كسريين أن نجنح بالخيال للقول بخارطة طاقوية دائمة ولا نتهور بأخذنا موقف مع أو ضد، وهذا هو جوابي على تساؤلي الرئيسي نعم روسيا فرضت خارطة جديدة ولكن مؤقته وموقته جداً.
الدكتور ساعود جمال ساعود