عن تغريبة وليد سيف وحاتم علي وموتهما القديم.
أذكر اللقطات الأولى التي تابعتها من مسلسل التغريبة الفلسطينية، والتي عرفتني إلى وليد سيف، أثار المسلسل شغفي الذي لا يستثار ببساطة، وأعدت مشاهدته مراتٍ عديدة كنت مسافراً فيها في عقل وليد سيف، ولغته العالية بلسان الراوي علي، وأذكر أن أكثر ما لفت انتباهي هو جدلية الشخصيات رغم خطوطها الواضحة.
كنت وما زلت من المعتقدين بأن كاتب السيناريو هو الأجدر بالمجد، وهو خلاق الأفكار وصاحب المنجز الأصعب، وهذا يظهر بوضوح عندما يعمل المخرج مع كاتبٍ آخر، كذلك فأنا ما أزال أسمع عاصي بصوت فيروز وأفكر بأفكار وليد سيف وممدوح عدوان من خلال أعمال حاتم علي.
وما يهمني بشكلٍ أساسي من هذه الأعمال هو الزير سالم والتغريبة وثلاثية الأندلس،
لم تكن اللغة التي استخدمها ممدوح عدوان لغة بلاغة أصيلة، بل كانت لغة صحفية حديثة وعامة وخالية من المفردات البليغة، أراد من خلالها أن يخاطب العقل العامي ويوضح له البطولة المزيفة التي يعبدها ذلك العقل ومخاطر التحارب الأهلي وأزمة الزعامة التاريخية، وكان المسلسل مقدمةً جيدة لما كان سيقدمه وليد سيف مع صقر قريش، والذي غاص في مزالق الحكم وأزماته، وشرَّح الأبطال الذين يتم تقديمهم للعامة، مبيناً حجم المصيدة الدموية التي يقعون فيها حين يطلبون أمراً من العسير التراجع عنه ( فالسلطان إما إلى القصر وإما إلى القبر )، واستخدم وليد سيف اللغة القديمة البليغة في تحدٍ واضح لأشكال الانتاج التقليدية، وأثبت أن الناس تعيها، وأنها تجعل المشاهد كبيراً حين يتلقاها، وحاول سيف في نهاية المسلسل أن يوصف الحال من خلال مشهد لقاء بدر مع صقر قريش ( أتصدق يا بدر !! لم أعد أحقد على بني العباس )، عندما وجد حاله يشبه حالهم قبل أن يقاطعه بدر أثناء تساؤله عن الحل ( إلا أن يعود الأمر شورى )، وذلك كان لب المقصد مما قدمه وليد سيف، وكان أيضاً التصور الواضح عندي وعند الكثيرين في ذلك الوقت، وكانت فكرةً واضحةً لا يهز يقينها شك، ثم أتت التغريبة الفلسطينية التي تعد أروع ما تم تقديمه، والتي حملت جرعةً هائلةً من البلاغة في التوصيف والتصوير والتأريخ أيضاً، وكان هناك تناغم ساحر بين المؤلف والمخرج والممثلين، بدا واضحاً حتى في القبعة القديمة المهترئة التي استخدمها حاتم علي أثناء الاخراج.
سأمنع نفسي من الحديث عن المسلسل الأجمل وسأكتفي بكلام لطفية مع مسعود في الحلقة الأخيرة، حين أوضحت له أن شيئاً لم يتغير ( أنت منك أحسن من أبو عايد يا مسعود )، وتركته ليواجه بخجل صورة حسن المعلقة التي تذكره بجبنه وأنانيته بعد أن أفسدته أموال الخليج، وذلك لب المقصد الذي كان على الراحل حاتم علي أن ينتبه إليه جيداً وكذلك وليد سيف.
استمر تشريح شخص الحاكم في ربيع قرطبة مع التركيز على موضوع الشرعية وعلاقة الدين مع السلطان وشكل الدولة الانقلابية، التي تعوزها الشرعية، والتي حاول محمد بن أبي عامر بناءها، والتي استخدم في سبيل ذلك كل ما كان ينكره قبل تسلمه الحكم من استخدام الصقالبه دون العرب إلى سيطرة الفكر الديني على المجتمع وتكفير الفلاسفة وحرق كتبهم، وتحول الوسيلة إلى غاية والاستئثار المطلق بالحكم دون إعادة الأمر إلى أهله، وصولاً إلى الانهيار الذي تمثل بملوك الطوائف في محاكاةٍ بليغة لواقع العرب الحالي، والاجابة على السؤال المستفز بسقوط بغداد السريع على يد الأمريكان ( لأن الطغاة كانوا دائماً شرط الغزاة )، وفي الاشارة إلى سيطرة التشدد الديني وتدمير المجتمع المتعدد، من خلال هيمنة دولة يوسف بن تاشفين الداعشية وغزو الصحراء للأندلس مجدداً.
بعد ملوك الطوائف مات حاتم علي ووليد سيف، ورغم براعة الاخراج في مسلسل عمر، كان واضحاً أن المال القطري الذي قدم سخياً في تلك الفترة 2012 كانت الغاية منه هي ترسيخ المفهوم الطائفي، خدمة للمشروع الإخونجي الذي بدا كاسحاً في تلك الفترة التاريخية، وبدا واضحاً أن غاية المنتجين هي الاسئثار بتلك الشخصية العملاقة لصالح اعتبارٍ سياسي، كان تم الترتيب له بين الأمريكان والاخونج منذ عام 2010، وكما تم استخدام المثنى صبح في خدمة اعتبارات عائلية مزيفة لآل ثاني من خلال مسلسل القعقاع، كذلك تم استخدام حاتم علي في مسلسل الملك فاروق بغية الاطاحة النهائية بعبد الناصر، وخلق قيمة غير موجودة للملك، وكنت أول من أشار للأمر في برنامج سوريا تتحاور على الفضائية السورية، ثم وصلت المهزلة إلى فنجان الدم الذي لم يذكره أحدٌ في اليومين الماضيين، وهو عملٌ مخجل أحط من أن يكون ( أكل عيش ) على حد تعبير إخواننا المصريين.
خلاصة القول أن ما قدمه حاتم علي من خلال المال السوري النظيف على حد تعبير الزميل مضر ابراهيم، كان الشيء الوحيد الذي أعطاه المعنى والمجد وكان لوثه بالمال الخليجي الذي لوث مسعود في التغريبة، وعقد اتفاقه مع التيار الداعشي الاخونجي كما عقده محمد بن أبي عامر بإحراق الكتب الفلسفية والعقلية في المكتبة الأموية في ربيع قرطبة.
أنا لا أطلب موقفاً من صناع الفن فهذا حسبهم، وأما المفكرون من أمثال وليد سيف وإن كان موقعهم الطبيعي في اليسار فليتهم صمتوا عندما جاء الغزاة، وبقيوا نظيفين من المال الملوث لأن القاعدة في صناعة الدراما تقول (قل لي من الممول أقل لك من أنت )، مات حاتم علي مع نهاية عرض ملوك الطوائف وليته لم يقدم شيئاً طوال فترة الحرب التي عصفت بوطنه لكان حينها لم يمت قط.
بقلم أخيل عيد