تطوّرت الأمور فيما يخص الحرب الروسية الأوكرانية نحو الأسوأ حتى بات المحللون يتحدثون عن مواجهة علنية بين الناتو وروسيا مباشرة والتوقف عن كون حرب الناتو ضد روسيا حرب وكلاء، وما يرافق ذلك من تسريبات حول خطط المواجهة بين الأطراف، والبداية كانت على الجانب الفرنسي منذ أسابيع تبعها تصريح امريكي مستهجن ونكرة لا محل له من الإعراب.
صرح ماكرون بأنه لا يستبعد إرسال قواته إلى أوكرانيا وتبعه قول رئيس الوزراء الفرنسي غابرييل أتال:”إن الجيش الفرنسي يستطيع ضمان أمن الحدود الأوكرانية بمختلف الأساليب.” الأمر الذي أعتبر زج الفرنسي لنفسه مباشرة في الصراع، وإن لم يك الأمر كذلك فإنه كان دلالة أن فرنسا اليوم تقود حملة التصعيد السياسي والإعلامي النفسي ضد روسيا، وهذا بحد ذاته شكل من أشكال حروب الجيل الرابع، ويحتم اتخاذ روسيا التدابير السياسية والعسكرية اللازمة لاتقاء خطر الفرنسي عليها.
وبالعودة إلى رئيس الوزراء الفرنسي فقد أوضح خلال اجتماع لمجلس الشيوخ الفرنسي أن دول الاتحاد الأوروبي قررت المضي قدما في مسألة إمدادات الأسلحة للقوات الأوكرانية لدعمهم في القتال ضد ما أسماه “التهديد الروسي“. وهذا ما يفهم أنه تسريب لقرارات سرية أطلسية على يد الفرنسيين، الأمر الذي قوبل بالاستنكار على الصعيد العلني من قبل الأمريكيين والالمانيين، إما لرغبتهم بإبقاء قرارهم سراً في حال كان تصريح شخصية ثقيلة الوزن مثل رئيس الوزراء الفرنسي تصريحٌ حقيقي، كما يفسر الاعتراض الألماني والأمريكي وإظهارهم ما يناقض التصريح الفرنسي وأظهاره أنه تصريح من جانب أحادي ولا يمثل بقية دول الناتو، بدليل اعتراض الأمين العام لحلف “الناتو” ينس ستولتنبرغ، الذي قال في وقت سابق بأنّ الحلف ليس لديه خطط لإرسال قوات إلى أوكرانيا، وبالتدقيق هنا فإن الاعتراض على (إرسال قوات بشرية إلى ميدان الحرب الأطلسية – القيصيرية)، وليس على إرسال أسلحة فالأمران مختلفان، وإن ارسال أسلحة ومعدات لوجستية هي ما يحصل منذ ما قبل بداية الحرب المخطط لها ضد روسيا.
في ختام مؤتمر دولي لدعم أوكرانيا، عقد في باريس قد أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أنه لا ينبغي “استبعاد” إرسال قوات غربية إلى أوكرانيا في المستقبل، مشيراً إلى أنه لا يوجد إجماع على هذه الخطوة حالياً؛ ورغم إشارته إلى ذلك فقد لقي استنكاراُ من قبل حكومات بعض الدول الأوربية لدرجة أنه في اليوم التالي، أعلنت سلطات العديد من الدول الأوروبية أنه لا يوجد أي حديث عن إرسال أي قوات عسكرية إلى أوكرانيا، وهذا عائد للنتائج السلبية التي تترتب على التصعيد مع روسيا لا سيما على الجانبين العسكري والاقتصادي.
ومن جانبها انتقدت موسكو هذه الفكرة ووصفتها بأنها تسعى لإشعال فتيل صراع عالمي بين روسيا والغرب، وأكد السكرتير الصحفي للرئيس الروسي دميتري بيسكوف أن إرسال قوات “الناتو” إلى كييف سيثير صراعا مباشرا بين الحلف وروسيا ويؤدي إلى تصعيد الوضع، كما حذر بيسكوف من أن وجود قوات حلف شمال الأطلسي في أوكرانيا سيحول إمكانية نشوب صراع بين روسيا والناتو من “محتملة” إلى “لا مفر منها“. مما يثبت أن ما يقوم به الغرب الأطلسي تحديداً حسب الفكرة الفرنسية يستهدف الأمن القومي الروسي مباشرة.
فعلى الجانب الأمريكي يستمر التنكر وممارسة سياسية الخداع للشعب الأمريكي وللعالم أجمع، حيث أبدت وسائل الإعلام الأمريكية تشاؤمها تجاه فكرة الرئيس الفرنسي وشككت بنجاعتها، كما حذرت من أن ذلك قد يؤدي إلى أكبر صراع بري تشهده أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. رغم أنها لم تتواني عن تقديم الدعم المالي والعسكري لأوكرانيا.
وفي إشارة إلى التنصل الأمريكي من التصريح الفرنسي خرج المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية ماثيو ميلر ليقول:” إن كل دولة ستقرر بنفسها ما إذا كانت سترسل أفرادا عسكريين إلى أوكرانيا أم لا، والولايات المتحدة ليس لديها مثل هذه النوايا أبدا.. لن يكون هناك جيش أمريكي على الأرض”. وفي هذا القول أشاره إلى الرغبة الأمريكية في تجنّب الصراع العسكري المباشر مع روسيا بعدما اختبروا مصداقية الإرادة الروسية في المضي قدما ضد مهددات أمنها القومي.
الجانب الألماني أعلن بشكل أو بأخر تنصله من الورطة الفرنسية حيث قال المستشار الألماني أولاف شولتس إن حلف “الناتو” لن يصبح طرفا في الصراع، ولن يتم إرسال القوات الألمانية إلى أوكرانيا.
بالمجمل إن التحليل يطرح سؤالين هامين أولهما: ما لذي دفع الرئيس الفرنسي إلى الرغبة بإرسال قوة عسكرية إلى أوكرانيا؟ والسؤال الاخر وفي حال حدث الصدام ما التداعيات العسكرية والاقتصادية للحرب القيصرية – الأطلسية في حال حصلت؟ إن أجوبة هذا الأسئلة تكشف أسباب ابتعاد ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية عن الرغبة بالصدام مع روسيا، ولا يمكن لحكومات عاقلة بما لديها من مراكز استشارات وصنع قرار ودراسات وسياسيين مخضرمين وخبراء بأن يشجعوا أي قرار من شأنه أن تشجع أي قرار يقود العالم نحو حرب عالمية ثالثة لا تبقي ولا تذر حجراً ولا بشراً علاوة على تضرر سلاسل التوريد العالمية وما سيطال الاقتصاد العالمي من أضرار ستطال حلفاء الطرفين على الساحة السياسية الدولية.
د. ساعود جمال ساعود
رئيس قسم الدراسات السياسية في صحيفة طريق الحرير