أثار غياب الرئيسين الصيني والروسي عن قمة العشرين موجة من التحليلات السياسية والإعلامية المبالغ فيها، وصلت إلى حد السخافة، ولا دري ما الغريب في الموقف الروسي الذي يعلم مسبقاً موقف دول العشرين من حربه في أوكرانيا ؟!، وبالنسبة للرئيس الصيني فقد أرسل رئيس وزرائه وهذا مسموح به بموجب قانون المجموعة والصين، ما جعل البعض يسترسل بخياله، حيث أثار غياب الرئيس الصيني ردود فعل متباينة فسرها البعض بكونها تراجع لدور الصين على الساحة العالمية، بينما رأى آخرون أنه تعبير عن استقلالية الصين ورفضها السير في ركاب الدول الغربية.
تحدّث المحللين والصحف حول هذا الموضوع وأعتبره البعض بأنه بداية تفكك مجموعة العشرين، وانقسام القوى الكبرى بين مجموعة بريكس بقيادة الصين من جهة ومجموعة السبع بقيادة أمريكا، واستندوا في ذلك لمؤشر بسيط الا وهو غياب الرئيس الصيني عن القمة
غاب الرئيس الصيني شي جين بينغ عن قمة العشرين التي عقدت في نيودلهي في 2023، ودارت التكهنات حول أسباب باتت مألوفة للقاصي والداني من قبيل الانشغال الداخلي في الصين بما تواجهه من تحديات الاقتصادية وسياسية داخلية، وخلافات مع الولايات المتحدة والدول الغربية، حيث الأجواء متوتره بشأنّ التجارة ودعاوي حقوق الإنسان وسيادة تايوان، ولعل ما سلف بات مطروقاً وبديهي ولا خلاف عليه، ولكن لصحيفة طريق الحرير تحليلها الخاص، حيث ترى أن الأسباب الحقيقية تكمن فيما يلي:
- توجيه ضربة إلى الهند الحليف المشكك بولائه: انتقدت الهند بشكل غير مباشر تصرف الرئيسين الصيني والروسي على لسان “سوبرامنيام جاي شانكار وزير الشؤون الخارجية الهندي الذي قال:” إنه لا ينبغي إطلاقا النظر إلى مجموعة العشرين على أنها “ساحة لسياسات القوة، بل ساحة للتعاون”، فهذا يعبر عن استياء هندي، وحسب مراقبين”” إن غياب بيان مشترك سيكون بمثابة خيبة أمل كبيرة للهند، لأنها عززت مكانتها لتكون الدولة القادرة على العمل كوسيط نيابة عن الجنوب العالمي”” (تريستين نايلور، الأستاذ المساعد للعلاقات الدولية في جامعة كامبريدج).
- التركيز على بريكس: تسعى الصين إلى النهوض بقوة بمجموعة بريكس المكونة من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا بدلاً من قمة العشرين، مما يعني العمل على تقديم بريكس – من هذا التاريخ وصاعداً- كمنافس مستقبلي للعشرين
- الخلافات بشأن الحرب في أوكرانيا : رفضت الصين وروسيا الدولتان الأكبر في مجموعة العشرين الهجوم تهديدات الناتو لأمن روسيا القومي، ونتج عن ذلك انقسام عميق داخل المجموعة، مما جعل من الصعب التوصل إلى أي اتفاقات مهمة، لذا مثل الغياب تجنباً لضغوط الدول الغربية بهذا الشأن.
- تنافس على الاتحاد الأفريقي كسبته بريكس: حسب تصريح وزير الخارجية الهندي، “طُلب إبداء رأي 125 دولة .. وسيكون بمقدور الهند الإعلان عن منح الاتحاد الأفريقي مقعداً دائماً على طاولة مجموعة العشرين” في حين رأينا أن بريكس تركز على الدول الأفريقية أيضاً، ويتضح بعد سلسلة الانقلابات الاخير ان تلك المناطق ساحات نفوذ.
- الانشغال الصيني بتقليص الفروقات الاقتصادية : قارنت خلال قمة العشرين 2023م، الولايات المتحدة بين التباطؤ الاقتصادي في الصين مقابل التحوّل النسبي في الاقتصاد الأميركي، وهذا الأمر مبعث للقلق والتنافس بالنسبة للصين وكفيل بتغييبها إنشغالاً منها بالملف الاقتصادي، الأمر الذي يجعلها تهتم أكثر بتغيير النموذج الاقتصادي الصيني.
- الرسائل السياسية: قد يكون غياب الرئيس الصيني عن القمة رسالة سياسية إلى الولايات المتحدة والغرب، تؤكد على استقلالية الصين ورفضها الانصياع لضغوطهم.
وأميل مع الرأي القائل بأن غياب الصين عن قمة العشرين يمنح الولايات المتحدة فرصة لتعزيز نفوذها في الجنوب العالمي إذ تسعى الولايات المتحدة إلى اغتنمت فرصّة غياب الصين عن القمة لتعزيز نفوذها في الدول النامية ، حيث عكس تصريح جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي الأمريكي: “”إذا كان الرئيس الصيني يريد إفساد لحظة ناريندرا مودي الكبرى فالأمر متروك له، مضيفا أن الصين تبدو وكأنها تهدر فرصة المشاركة على نحو بنّاء، وتسوية قضايا متعددة الأطراف تواجه البلدان النامية”” ، وبالاستنتاج عكس تصريح جيك سوليفان استياء أمريكي من الاستقلالية الصينية فيما يتعلق بتحديد هوية مركزها الدولي من جهة ومكانها بين القوى العالمية، وضربة موجعة مباشرة لنظرية التابع والمتبوع ، إذ هي بموقع يمكنها من أتخاذ قرارات مصيرية. كما ينطوي التصريح إيحاءات بأن الصين ستندم على تصرفا الامر الذي يعني في حال كان التصريح مسؤول وذو مصداقية أن امريكا ستقبل في الفترة المقبلة على سياسات عدائية ضد الصين على الأغلب سياسية واقتصادية والمراد منها تقويض السيادة وزعزعه مقدرة أتخاذ القرار.
وبالمجمل رغم بيان صدر عن وزارة الخارجية الصينية الذي ذكر أن غياب الرئيس شي كان بسبب “جدول أعماله المزدحم”.، وبالفعل كان من المقرر أن يسافر الرئيس الصيني إلى إيطاليا في زيارة رسمية قبل القمة”، وجاءت مشاركتها ممثلة برئيس وزرائها دلالة لاستمرار الصين بالأخذ بمجموعة العشرين كملتقى للتعاون الدولي، ومنصة رئيسية لتخفيف حدة صدام المصالح بين الدول الكبرى، وقناة دبلوماسية لحل المشاكل العالمية المحورية وإيجاد أقرب التسويات، وبالنظر إلى النهج السياسي الصيني المعتمد في سياستها العالمية خصوصاً في المجال الخارجي، فإنه من المستبعد أن تنحرف كلياً عن مجموعة العشرين بما يغلق هذه القناة العالمية كونها ملتقى دولي يساعد بحل الكثير من المشاكل العالمية.
د. ساعود جمال ساعود