أهمية البورصة وتقلباتها التاريخية

بقلم: الكاتب والمحامي خلدون عزيز درويش
تُعَدُّ البورصات العالمية مؤشرًا رئيسيًا لصحة الاقتصاد واستقرار الثقة عند المستثمرين، فتمثِّل تجمعاً لرؤوس أموال ضخمة ومقياساً للقيمة الحقيقية للشركات. شهدت الأسواق المالية تقلبات حادة عبر التاريخ: ففي الكساد الكبير (1929–1932) انهارت الأسهم الأمريكية بنحو 90% ولم تستعد مستوياتها السابقة إلا بعد عقود طويلة. وفي 19 أكتوبر 1987 هبط مؤشر داو جونز بنحو 22.6% في يوم واحد، وهو أكبر تراجع يومي مسجّل. وخلال الأزمة المالية العالمية 2008 فقدت البورصة الأمريكية أكثر من نصف قيمتها من أعلى مستوى لها ليغلق مؤشر داو عند نحو 6926 نقطة في مارس 2009، أي ما يعادل انخفاضاً يتجاوز 50%. وعلى الرغم من أن الأسواق الحديثة تتمتع بآليات حماية مثل «وقف التداول»، فإن تجارب الماضي تثبت هشاشة الثقة وتأثرها بالعوامل الاقتصادية الكبرى.
أسباب تراجع البورصات في السنوات الأخيرة
شهدت السنوات القليلة الماضية ضغوطاً من عدة جهات أدت إلى تراجع أداء الأسواق:
التضخم وارتفاع الفائدة: بعد جائحة كورونا تزايدت معدلات التضخم عالمياً، فتجاوزت 9% في الولايات المتحدة عام 2022، مما دفع البنوك المركزية لرفع أسعار الفائدة بمعدلات غير مسبوقة . وقد أدى ذلك إلى هبوط الأسهم بحوالي 20% في 2022.
الأزمات الجيوسياسية والحروب: أطلقت حرب أوكرانيا (2022) صدمة تضخمية عالمية عبر ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء، إذ بلغ سعر النفط نحو 140 دولاراً للبرميل وأدى ذلك إلى تسريع موجة التضخم العالمية. كما زادت توترات الشرق الأوسط والصراعات في مناطق نفطية أخرى من حالة عدم اليقين.
الحروب الاقتصادية وحروب التجارة: تمثل السياسات الحمائية وفرض الرسوم الجمركية والحصارات الاقتصادية ضغوطاً كبيرة. فعلى سبيل المثال، أعلنت الولايات المتحدة فرض رسوم جمركية شاملة بلغت 104% على واردات صينية أُخرى، تبعتها ردود انتقامية من الصين، مما أدى إلى «انهيار» عالمي في الأسواق المالية لم يشهد له مثيل منذ جائحة كورونا . وفي مارس 2025، أدّت الجولة الجديدة من الرسوم الأمريكية ضد حلفاء قدامى إلى تراجع أكبر في البورصة الأمريكية.
عوامل اقتصادية أخرى: تشمل القيود التمويلية للشركات (مثلاً مشاكل ديون الصين العقارية) وتباطؤ النمو في بعض الاقتصادات الكبرى، فضلاً عن تباطؤ الطلب بعد انتعاش ما بعد كورونا. كل هذه العوامل مجتمعة ترفع من مخاطر تراجع الأرباح وتزيد من القلق على الأسواق.
العلاقة بين الحرب الاقتصادية والحرب العالمية
تُظهِر التجارب التاريخية أن النزاعات الاقتصادية قد تسبق أو تهيئ لاندلاع نزاعات عسكرية كبرى. وترى معظم التحليلات أن هذا التوتر التجاري العالمي غذّى صعود الأنظمة العسكرية في ألمانيا وإيطاليا واليابان، التي استغلت الانهيار الاقتصادي لتعزيز نزعها العسكري. ولئن يصعب بحكم المنطق إرجاع الحرب العالمية الثانية إلى سبب واحد، فقد أكّد مؤرخون أن الركود الاقتصادي العالمي سمح لزعيم مثل هتلر بإضافة مشروعية لحملاته التوسعية، في ظل غياب أي رد حازم من القوى الكبرى.
وعلى صعيد معاصر، يُدرج كثيرون التضييق الاقتصادي ضمن «آليات الحرب» دون إطلاق رصاص: فالجزاءات الغربية على روسيا بعد غزوها لأوكرانيا 2022 شكلت فعلاً حرباً اقتصادية، إذ قطعت مصادر موارد رئيسية عن الأسواق العالمية ورفعت أسعار النفط والغاز بشكل غير مسبوق. وبدورها، أثرت هذه الإجراءات سلبيًا حتى على اقتصاديات الحلفاء؛ فالخبير نوريل روبياني يحذّر من أن الحرب الأوكرانية ستطلق صدمة تضخمية جديدة عالمياً وتؤدي إلى ركود بطيء مُصاحب للتضخم مع توقعه هبوط الأسهم العالمية إلى مستويات انخفاض تتجاوز 20%. كما يُشير روبياني إلى أننا دخلنا ما أسماه «حقبة تشبه الفترة بين 1914 و1945» من حيث التحديات متعددة الأبعاد.
أضف إلى ذلك النزاع التجاري الأمريكي–الصيني المستمر، الذي بلغ ذروته مؤخراً برسوم جمركية متبادلة إلى نحو 145% على سلع حساسة. ففي بداية أبريل 2025، أعلنت بكين فرض 34% رسوم جديدة على الصادرات الأمريكية، مما أدى إلى هبوط عالم الأسهم وتأكيد فقاعة هابطة لمؤشر ناسداك. وصَرح محللون أن هذه الحرب التجارية العالمية قد تسببت في «أكبر خسائر سوقية منذ الوباء».
وقد حذّر خبراء مرموقون من مخاطر تصعيد هذه النزاعات الاقتصادية. فرأى محمد العريان (المستشار الاقتصادي الرائد) وغيره من المحللين أن سياسات الحماية الأميركية الأخيرة «زادت التكاليف وأربكت الأسواق دون نتائج حقيقية». واعتبر روي داليو (مؤسس بنك بريدجووتر) أن تراكم الرسوم والعقوبات يقرب العالم من تكرار سيناريو الثلاثينيات من القرن الماضي؛ فهو حذر قائلاً إن الأوقات الراهنة «تشبه الثلاثينيات، وما يحدث الآن قد يكون أشد إذا لم تُعالَج المشاكل بجدية». كما حذَّر روي داليو من أننا «على شفا انهيار النظام النقدي والنظامين السياسي والدولي» بسبب الأسس الاقتصادية غير المستدامة الراهنة. يضيف روي داليو في تحليله الأخير أن شركات كثيرة بدأت «تقلص تعاملاتها مع الولايات المتحدة» بحثاً عن بدائل تجارية، مما يبشر بإعادة ترتيب جيوسياسية جديدة تتجاوز الهيمنة الأميركية.
يطرح الخبراء سؤالاً محورياً: هل يمكن أن تتفاقم هذه النزاعات الاقتصادية لتتحول إلى حرب عالمية فعلية؟ الإجابة ليست حتمية، لكن التحذيرات واسعة من أن التصعيد المستمر قد يؤدي إلى انهيارٍ في النظام الدولي الراهن. يرى نورييل روبياني أن مخاطر النزاع المسلح بين القوى الكبرى ارتفعت، فهو وصف الأزمة الراهنة بأنها «قفزة جيوسياسية» ذات تبعات اقتصادية هائلة. ومن جانبه أرى أن العالم يشهد مؤشرات قد تعني أن «الحرب العالمية الثالثة قد تكون قد بدأت بالفعل» في سياق تصاعد التوترات الدولية (مستنداً إلى تاريخنا الحديث).
أما كيفية تعافي الأسواق، فتعتمد على عدة عوامل مؤثرة. من الناحية التاريخية، تبيّن أن البورصات عادة ما تنتعش بعد أن تبدأ البنوك المركزية في تخفيض الفائدة. لذلك، فإن تهدئة التضخم وتخفيض الفائدة تدريجياً – إذا ما تيسرت الظروف الاقتصادية – قد يوفر دفعة إيجابية للأسواق. كما يلعب الاستقرار السياسي ودعم الحكومات للاقتصاد عبر حزم تحفيز أو إصلاحات هيكلية دوراً في تعزيز الثقة. وفي هذا السياق يشددُ روي داليو على أن على صانعي السياسات والمستثمرين أن يخططوا لـ«تغييرات أساسية كبرى» لتشكيل مستقبلٍ أفضل، بدلاً من التفاعل فقط مع تقلبات الأسواق اليومية.
وفي الأفق الأبعد، يبدو أن الأزمة الحالية تدفع العالم لإعادة رسم خريطة الاقتصاد الجيوسياسي. فالتجزئة التجارية والمالية قد تُحفز نشوء تحالفات اقتصادية جديدة، وزيادة استخدام العملات الوطنية الأخرى. كما قد يعزز الصراع على الموارد (كالطاقة والمعادن النادرة) بناءً أنظمة تجارية بديلة. باختصار، أرى بأننا ربما أمام «نظام اقتصادي جيوسياسي جديد»، حيث ستتوزع النفوذ والثروات بطرق مختلفة عن عقود ما بعد الحرب العالمية الثانية، الأمر الذي يستوجب يقظة وحلولاً مبتكرة لمنع نشوب صراعات أكبر ولتمكين الأسواق من التعافي بثقة.