المفهوم الاستراتيجي وثيقة أساسية للحلف يُعاد بموجبها تأكيد قيم الناتو وأهدافه ، ويقدّم تقييماً جماعيًاً للبيئة الأمنية، كما أنه يقود التكيف الاستراتيجي لحلف الناتو، ويوجّه تطوّره السياسي والعسكري في المستقبل، ومن المعلوم أنّه تتم مراجعة المفهوم الاستراتيجي وتحديثه بانتظام، منذ نهاية الحرب الباردة ، تم تحديثه كل عشر سنوات تقريباً لمراعاة التغييرات في بيئة الأمن العالمي وللتأكد من استعداد الحلف للمستقبل.
بالنسبة لمسألة قيم الناتو وأهدافه، فإنّها ليست أهدافه بالنبيلة السامية لمصلحة الإنسانية، ولكنها لأوربيين تعني ذلك، حيث تخفي صراع الايديولوجيات (وضع حد لانتشار الشيوعية في أوروبا)، والتحالفات الدولية، والتمايز القومي والقاري، وتأمين المصالح، وهذه بالمجمل مجموعة من الغايات التي ترسّخ حكمه عالمياً وتؤمن استمراره، وتوفقه عالمياً، وتأمين مقتضيات هذا الاستمرار.
وفيما يخص توجيه التطوّر السياسي والعسكري مستقبلاً، فعلى الرغم مما أشيع أن مساعي الناتو لضم أوكرانيا له لتكون خنجره الحاد في الخاصرة الروسية هو الذي شاع إعلامياً وسياسياً، وكانت “السبب الرئيسي” في انطلاق العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا والتي ما تزال مستمراً إلا أنّ المترقب للإحداث يتولّد لديه شعور بأن امريكا التي حرصت عل خلق وهم لدى الأوكران لدرجة الثقة بأنها ستتدخل مباشرة وعسكرياً في حال قامت روسيا بغزو أوكرانيا، وهذا مالم يحص علانية ولكنها نجحت بتأجيج الموقف عسكريا ووفت متفرجة، وجر الناتو لتصريحات نارية وترت الأجواء مع روسيا مع علمهم بالتأكيد بخفايا الخطط الأمريكية، دون أن نتجاهل المفاعلات البيولوجية الموجودة مسبقاً وضباطها وضباط الناتو المشرفين والمدربين، وبعد أن بدأت روسيا، بدأت تلعب أمريكا دور المتفرج وبقي الناتو في الساحة مقابل روسيا، وهذا ما يوحي بأن أوكرانيا كانت هدية أمريكية لروسيا أي بمثابه الطعم والغرض ايقاع الأوربي في فخ الصراع مع الروسي الذي وصلت به الجدية لغاية التلويح بالنووي، وهنا تتضارب التفاسير وأبرزها إبقاء الأوربي بحاجة الأمريكي، وخاضع له من جهة والعمل على استخدام روسيا فزاعة ضد الأوربي، وهنا نعود لأهداف الناتو تطويق الروسي ألا وهو خلق نوع من الترهيب والخوف من الخطر الروسي السوفييتي.
من أهم الأهداف التي ستضع الناتو على مفرق طرق خلال مناقشة رؤيته الاستراتيجية الجديدة بعد أيام هي “تقوية الأوضاع العسكرية وتعزيز قوة أوروبا في مواجهة الأخطار التي يستشعرونها، فالروسي قد أثبت أنه أذكى وأقوى مما تعتقد أمريكا ودول الناتو التي كانت تظن بأنها تتأمر من تحت الطاولة لتتفاجئ بأنّ الروسي يعي ما يحصل حوله تماماً.
المهم بالأمر الجميع بات يستشعر ولادة ملامح نظام دولي راهن بتوازنات جديدة ومختلفة عمّا ساد سابقاً، ولن نتظاهر بالنبوة ونقول نظام متعدد الأقطاب ، فهذا الكلام سابق على أوانه، ولكن الأوربي في أصبح يخطط ليكون قطباً مستقلاً بمعزل عن الأمريكي ومناهض للروسي، ليكون أحد الفواعل الدولية التي لا يمكن اختراقها ولا تجاوزها بأي معادلة دولية.
وبالنسبة للأوضاع الاقتصادية بالإضافة لتحسين الوضع الاقتصادي” فقد ظهر العجز الأوربي أمام مصادر الطاقة الروسية التي لعبت ورقتها الاقتصادية بمنتهى الذكاء، فعلى عكس ما توقعوا من قطع الطاقة عنهم إلا أن روسيا استمرت بإمدادهم بها بالكميات والعملة التي تريد ، فحصل لها التعويض لما أنفقته على حربها من جيوبهم.
الجدير بالذكر بهذا السياق هو الصين التي يخشاها الجميع وتعمل بصمت، فاليوم دول الناتو تعتبرها تحدّ استراتيجي، ويجب ردعه بأساليب عسكرية وتكنولوجية غير تقليدية مثل الأمن السيبراني ، إضافة إلى الجانب الاقتصادي، إذا تبرز معضلة تطويق الصين في مجال التحكم في البنية التحتية الحيوية حيث أصبحت ذات ثقل عالمي بهذا المجال، ومن الأمور التي تجعل مهمتهم صعبة في هذا المجال تماشي الصين مع النظام الدولي القائم على قواعد وقوانين دولية وصعوبة إحراجها ضمن هذا السياق، ورغم ذلك هناك ضرورة لذكر دواعي إدراج الصين على قائمة حلف الناتو أهونها الاقتصاد الصيني أكبر قوة صناعية في العالم، وإعلان روسيا والصين عن “شراكة بلا حدود” ، بغية وضعهم لسياسات تطويقه التي قد تكون بجزء كبير منها بالتعاون معه والانفتاح لتجنب الصدام خصوصاً أن الصين تأخذ منحى سلمي عكس الولايات المتحدة الأمريكية.
ومن الصعوبات بوجه تقرير الناتو سياساته تجاه الصين حالة عدم التناسق داخل الناتو حيال العلاقة مع الصين، حيث اتخذت الولايات المتحدة موقفا عدائي من بكين، في حين ذهبت ألمانيا التي تربطها علاقات اقتصادية وتجارية وثيقة مع الصين، وهذا ما سيجبرهم على التعامل الحذر مع الصين حيث ستكون عقلية المتخوف المرتاب هي الحاكمة.
وللتنويه، إن الصين تعي ما يفعله الناتو بقيادة الأمريكي بدليل إتهام الصين للولايات المتحدة بمحاولة تشكيل كتل لقمع نموها. في مارس ، استخدم وزير الخارجية وانغ يي إيجازه الإخباري السنوي لتحذير واشنطن من محاولة بناء نسخة من حلف شمال الأطلسي في المحيطين الهندي والهادئ ، قائلاً إن الهدف هو “الحفاظ على نظام الهيمنة الذي تقوده الولايات المتحدة”.
بقلم الدكتور ساعود جمال ساعود