تُعَدّ النخب السياسية أحد أهم الفواعل المؤثرة في تشكيل المشهد السياسي وصناعة القرار داخل الدولة. فمهما تغيّرت الحكومات أو تبدّلت الظروف الاجتماعية والاقتصادية، تبقى هذه النخب محافظة على موقعها، سواء بشكل ظاهر أو من وراء الستار. هذا الاستمرار لا يحدث صدفة، بل يقوم على منظومة متكاملة من الآليات التي تُمكّن النخبة من إعادة إنتاج سلطتها وديمومة نفوذها، حتى في الأوقات التي تشهد فيها الدولة تحولات سياسية عميقة أو انتقالات في السلطة. ويعدّ فهم هذه الآلية أساسياً لتحليل سلوك الأنظمة السياسية، سواء كانت ديمقراطية أو سلطوية، لأن بنية النفوذ عادةً لا تتغير بالسرعة التي تتغير بها الوجوه.
تبدأ عملية إعادة إنتاج السلطة عادة من داخل مؤسسات الدولة نفسها، حيث تسعى النخبة إلى وضع يدها على المراكز الحساسة والإدارية العليا. فاختيار القيادات في الوزارات والمؤسسات السيادية، يتم غالبًا بما يضمن أن تكون هذه المواقع جزءًا من دائرة النفوذ السياسي وليس امتدادًا للمجتمع أو للتكنوقراط المستقلين. ومع مرور الوقت تتحول هذه المؤسسات إلى أدوات لإدامة سلطة النخبة، إذ يتم ضبط القرارات، وتحديد سُبل التعيين، واحتكار المعلومات، بما يرسّخ شبكة مغلقة لا يمكن اختراقها بسهولة.
وفي السياق نفسه، تعتمد النخبة على بناء شبكة واسعة من الولاءات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي توفر لها قاعدة داعمة. إذ تتداخل المصالح بين السياسيين ورجال الأعمال وزعماء المجتمع والفاعلين الإعلاميين، لتتشكل منظومة نفوذ متشابكة. وهذه الشبكات ليست وليدة اللحظة، بل تتشكل على مدى سنوات، بحيث يصبح الارتباط بالنخبة ممرًا أساسيًا للحصول على الامتيازات أو النفاذ إلى مواقع النفوذ. وتتكامل هذه العلاقات لتُنتج نظامًا يقوم على التبادل المتبادل للحماية والمصالح، مما يسهم في إغلاق المجال السياسي أمام أي قوى جديدة تسعى إلى المنافسة.
وتبرز الموارد الاقتصادية بوصفها أحد أهم أدوات النخبة في تثبيت سلطتها. فكلما تمكنت من التحكم بالمال العام، أو مصادر التمويل، أو المشاريع الكبرى، أصبحت أكثر قدرة على توجيه الطبقة الاقتصادية وضمان دعمها. كما يوفر التحكم بالموارد القدرة على استقطاب جمهور واسع من الأتباع، سواء عبر الامتيازات أو عبر خلق اعتماد مباشر على الدولة. وفي العديد من الدول، يتحول الاقتصاد بأكمله إلى رافعة للنفوذ السياسي، ما يجعل تغيير النخبة أمرًا صعبًا، لأن السلطة تصبح مرتبطة بالبنية الاقتصادية للبلد نفسه.
ولا يقل الإعلام أهمية عن باقي أدوات النفوذ؛ فهو الواجهة التي تُسَوّق من خلالها النخبة خطابها السياسي وتُعيد تشكيل صورة الواقع في ذهن الجمهور. إذ تعمد النخب إلى استخدام الإعلام التقليدي والرقمي لبناء سرديات تبرر استمرارها في الحكم، سواء من خلال تضخيم إنجازاتها أو عبر التشكيك بقدرة المنافسين أو تصوير البدائل على أنها تهديد للاستقرار. ومع تطور الإعلام الرقمي، أصبحت الحملات الإلكترونية أداة فاعلة في التأثير على الرأي العام، وفي بعض الحالات تُستخدم لتشويه الخصوم أو لإعادة تشكيل المزاج الشعبي في اللحظات السياسية الحاسمة. وهكذا يصبح الإعلام جزءًا من ماكينة إعادة إنتاج السلطة، وليس مجرد وسيلة تواصل.
ولا تتوقف النخب عند الحفاظ على نفس الأفراد في مواقع القيادة، بل تعمل على ما يسمى بتدوير الوجوه السياسية. فحتى عندما يتراجع دور بعض الشخصيات نتيجة الضغوط الداخلية أو الانتقادات الشعبية، تُقدَّم بدائل جديدة تحافظ على نفس الخط السياسي ونفس منظومة المصالح. وبذلك تبدو الساحة السياسية وكأنها تتغير وتتجدد، بينما تبقى القوة الفعلية في يد المجموعة نفسها. ويحدث هذا التدوير في الحكومات، وفي إدارات الأحزاب، وفي المؤسسات العامة، بحيث يُعاد توزيع الأدوار دون المساس بالجوهر الحقيقي للسلطة.
ومع توظيف هذه الأدوات، يصبح المجال السياسي محدوداً أمام القوى الجديدة. فالنخبة تتحكم بقواعد التنافس السياسي، سواء عبر وضع قوانين انتخابية معقدة، أو عبر إدارة المشهد الحزبي، أو عبر النفوذ في المؤسسات القضائية والرقابية التي تشرف على العملية السياسية. وحتى في الأنظمة الديمقراطية، قد تُستخدم الأدوات القانونية نفسها للتحكم بنتائج الانتخابات أو لإقصاء الخصوم بطريقة مشروعة على الورق.
ورغم قدرة هذه الآليات على تعزيز استقرار النخبة، إلا أن آثارها الجانبية تنعكس بشكل سلبي على الدولة والمجتمع. إذ يؤدي استمرار النخبة نفسها لعقود إلى احتكار القرار السياسي وغياب التداول الحقيقي للسلطة، إضافة إلى توسع الفجوة بين الشعب والطبقة السياسية، وتآكل الثقة بالمؤسسات، وتعطّل الإصلاحات التي تتطلب وجود قيادة جديدة أو أفكار مختلفة. ومع الوقت يصبح النظام السياسي مقيدًا بمنظومة نخبوية غير قادرة على التجدد أو الاستجابة لتحديات العصر.
ورغم هذه القوة، إلا أنّ قدرة النخبة على إعادة إنتاج سلطتها قد تتعثر حين تواجه عوامل خارج سيطرتها، مثل الأزمات الاقتصادية الحادة، أو الانقسامات الداخلية، أو الاحتجاجات الشعبية الكبرى، أو صعود قوى سياسية جديدة تمتلك قاعدة جماهيرية واسعة أو دعمًا دوليًا. في مثل هذه الحالات، تصبح منظومة إعادة إنتاج السلطة مهددة، وقد تنهار جزئيًا أو كليًا.
أما على صعيد الحلول، فإن الحد من قدرة النخب على إعادة إنتاج السلطة يتطلب وجود منظومة إصلاحية متكاملة، تبدأ من بناء مؤسسات حقيقية تحكمها المهنية والاستقلالية لا الولاءات. كما يستلزم تعزيز دور القانون عبر بناء قضاء مستقل وقادر على مواجهة النفوذ السياسي، إضافة إلى إعادة هيكلة الإعلام ليكون حرًا ومسؤولًا، لا مجرد أداة بيد النخب. ومن المهم كذلك فتح المجال السياسي أمام قوى جديدة عبر قوانين انتخابية عادلة، وتوفير فرص متساوية للمشاركة، وإزالة العوائق التي تمنع ظهور نخب بديلة. ولا يمكن تحقيق ذلك دون ثقافة مجتمعية تعزز الرقابة الشعبية والمساءلة، وتشجع على مشاركة الشباب والنخب الفكرية الجديدة في الحياة العامة.
وفي النهاية، فإنّ إعادة إنتاج السلطة ليست مجرد سلوك سياسي، بل هي نتاج بنية اجتماعية واقتصادية وإعلامية متشابكة. والتعامل معها يتطلب فهمًا عميقًا لهذه البنية، وإرادة إصلاحية حقيقية، وإيمانًا بأن التجديد السياسي ليس تهديدًا، بل ضرورة لاستمرار الدولة وتطورها.
بقلم الدكتور: حيدر جواد الخفاجي .. كلية العلوم السياسية – جامعة بغداد / العراق الشقيق.






















