كتب الدكتور في العلوم السياسية – جامعة بغداد/ العراق الحبيب، السيد حيدر جواد الخفاجي، مقالاً تناول فيه واقع بعثة الأمم المتحدة في العراق من عدة زوايا أبرزها: الأدوار ودلالات إنتهاء المهام المستقبلية، جاء فيه: بعثة الأمم المتحدة هي كيان دولي يُنشأ بقرار من الأمم المتحدة، غالباً عبر مجلس الأمن، للعمل في دولة أو إقليم يمر بظروف استثنائية مثل النزاعات المسلحة، أو مراحل الانتقال السياسي، أو الأزمات الإنسانية، أو ضعف مؤسسات الدولة. ولا تُعد البعثة سلطة بديلة عن الدولة المضيفة، بل إطاراً دولياً مؤقتاً يهدف إلى المساندة والدعم وفق تفويض محدد وواضح.
تعمل بعثات الأمم المتحدة على مبدأ المساعدة لا الوصاية، ويكون ذلك بالتنسيق مع الحكومة الوطنية وبموافقتها، وتلتزم باحترام سيادة الدولة وسلامة أراضيها. ويختلف شكل البعثة وطبيعة مهامها من حالة إلى أخرى، تبعاً لقرار إنشائها والسياق السياسي والأمني القائم.
من حيث الوظيفة، تنقسم بعثات الأمم المتحدة عموماً إلى بعثات سياسية خاصة، وبعثات لحفظ السلام، وبعثات إنسانية أو تنموية.
شكّل وجود بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي) أحد أبرز معالم المرحلة التي أعقبت عام 2003، إذ جاءت في سياق دولي وإقليمي معقّد رافق عملية إعادة بناء الدولة العراقية وصياغة نظامها السياسي الجديد. ولم يكن دور البعثة تقنياً أو إغاثياً فحسب، بل اتخذ أبعاداً سياسية ومؤسسية وأمنية جعلت منها فاعلاً مؤثراً في مسار التحولات العراقية طوال أكثر من عقدين.
اضطلعت يونامي منذ تأسيسها بعدة أدوار محورية، كان في مقدمتها دعم العملية السياسية، من خلال المساعدة في تنظيم الانتخابات، وتقديم المشورة في صياغة الأطر الدستورية والقانونية، وتعزيز الحوار بين القوى السياسية المختلفة في بيئة شديدة الانقسام. كما لعبت البعثة دوراً مهماً في مجال حقوق الإنسان، عبر رصد الانتهاكات، وتقديم التقارير الدورية، ودعم بناء المؤسسات المعنية بالعدالة الانتقالية وسيادة القانون. وإلى جانب ذلك، ساهمت يونامي في تنسيق الجهود الدولية لدعم العراق إنسانياً وتنموياً، لا سيما في فترات الأزمات الأمنية والنزوح الجماعي والحرب على تنظيم داعش.
غير أن هذا الحضور، على أهميته، ظل مثار جدل داخلي متواصل. فقد رأت بعض القوى السياسية أن دور البعثة تجاوز في أحيان معينة حدود الدعم الفني إلى التأثير السياسي غير المباشر، بينما اعتبر آخرون وجودها ضرورة فرضتها هشاشة الدولة وضعف مؤسساتها وعدم قدرتها على إدارة التوازنات الداخلية والخارجية بمفردها. هذا الجدل يعكس في جوهره إشكالية العلاقة بين السيادة الوطنية والحاجة إلى الدعم الدولي في الدول الخارجة من النزاعات.
إن إعلان انتهاء مهام بعثة الأمم المتحدة في العراق يحمل دلالات سياسية عميقة، أبرزها أن الدولة العراقية تسعى إلى تقديم نفسها بوصفها قادرة على إدارة شؤونها الداخلية دون وصاية دولية، وأن مؤسساتها الدستورية والأمنية باتت أكثر استقراراً مقارنة بالسنوات السابقة. كما يمكن قراءة هذا الانتهاء بوصفه رسالة إلى الداخل والخارج بأن مرحلة الانتقال السياسي الطويلة تقترب من نهايتها، وأن العراق يريد إعادة تعريف علاقته مع المجتمع الدولي على أساس الشراكة لا الإشراف.
مع ذلك، فإن انتهاء مهام يونامي لا يعني بالضرورة انتهاء التحديات التي واجهها العراق خلال فترة وجودها. فالمشهد السياسي ما زال يعاني من أزمات بنيوية، أبرزها منطق التوافق والمحاصصة، وضعف الأداء المؤسسي. كما أن ملفات حقوق الإنسان، والإصلاح الإداري، ومكافحة الفساد، وبناء الثقة بين المواطن والسلطة، ما زالت تتطلب جهداً وطنياً كبيراً كان جزء منه يُدار أو يُسند دولياً عبر البعثة.
أما على المستوى المستقبلي، فإن غياب يونامي يضع النخب السياسية العراقية أمام اختبار حقيقي. فإما أن يشكّل هذا الانسحاب فرصة لتعزيز السيادة وبناء قرار وطني مستقل قائم على مؤسسات فاعلة وقواعد حكم رشيد، وإما أن يتحول إلى فراغ سياسي أو رقابي قد تستثمره قوى داخلية أو خارجية بطرق أقل شفافية. ويتوقف المسار الذي سيسلكه العراق على قدرته في تحويل الدعم الدولي السابق إلى خبرة متراكمة تُدار محلياً، لا إلى اعتماد دائم كان يُخفي أزمات الداخل بدل معالجتها.
في المحصلة، فإن بعثة الأمم المتحدة في العراق كانت جزءاً من مرحلة تاريخية استثنائية، أدّت خلالها أدواراً متعددة بين الدعم والمرافقة والتأثير. وانتهاء مهامها لا يُعد حكماً نهائياً على نجاح التجربة أو فشلها، بقدر ما يمثل انتقالاً إلى مرحلة جديدة يُفترض أن يكون فيها القرار والمسؤولية عراقيين بالكامل. وهي مرحلة تحمل في طياتها فرصاً حقيقية لإعادة بناء الدولة، لكنها في الوقت نفسه تنطوي على مخاطر إذا لم تُقابل بإرادة سياسية وإصلاحات جادة تعالج جذور الخلل في بنية النظام السياسي والإداري.






















