بقلم الدكتور: حيدر جواد محمد الخفاجي – كلية العلوم السياسية – جامعة بغداد – العراق.
يُعد التسويق السياسي من أبرز أدوات العمل الديمقراطي في الأنظمة السياسية الحديثة، إذ يُستخدم كوسيلة للتواصل الفعّال بين القوى السياسية والجمهور، ويهدف إلى الترويج للأفكار والبرامج والسياسات عبر أساليب إعلامية واستراتيجية مدروسة. يقوم هذا المفهوم على بناء صورة ذهنية إيجابية للمرشح أو الحزب، ويعمل على إقناع الناخبين من خلال تقديم رؤى واقعية وخطط قابلة للتنفيذ، تعكس إدراكًا عميقًا لاحتياجات المجتمع وتطلعاته، وتؤسس لثقة متبادلة بين المواطن وصاحب القرار.
ويتم ذلك من خلال استراتيجيات عدة من أبرزها
السعي نحو التميز والتفرد، حيث يسعى المرشح إلى الظهور بشكل مختلف عن منافسيه عبر تقديم برامج نوعية أو استثمار تجاربه الشخصية والمهنية بما يحقق له حضوراً مميزاً في أذهان الناخبين.
كما أن الاستخدام الذكي للأساليب العاطفية يلعب دورًا بالغ الأهمية في تحفيز الناخبين، فالتأثير في مشاعرهم عبر استثارة الأمل أو الغضب أو الانتماء الوطني قد يكون حاسماً في كسب الأصوات، خاصة في لحظات التوتر السياسي أو الاجتماعي.
وإلى جانب ذلك، فإن الاستهداف الموجّه عبر تحليل البيانات وتحديد الفئات المؤثرة داخل المجتمع يمكّن الحملات من توصيل رسائل دقيقة ومخصصة تحقق تفاعلاً فعالًا.
ومن جانب آخر، كثيراً ما تُستخدم أدوات النقد السلبي لتسليط الضوء على أخطاء أو إخفاقات المنافسين، في محاولة لتقليل شعبيتهم وتعزيز موقف المرشح المقابل، رغم أن ذلك قد ينقلب سلباً حين يُستخدم بشكل مفرط أو غير أخلاقي.
أما بناء الثقة، فهو جوهر أي حملة ناجحة، إذ يعتمد على الشفافية ووضوح الخطاب والوفاء بالوعود، ويمنح المرشح علاقة مستقرة وطويلة الأمد مع جمهوره.
لكن في العراق، يكشف الواقع عن انحراف واضح وخطير في استخدام أدوات التسويق السياسي، حيث لم تُستخدم هذه الأدوات بوصفها وسائل لبناء التواصل، بل تحولت إلى أدوات للتضليل والتشويش. فبدلاً من التركيز على البرامج والإنجازات، أصبحت الحملات الانتخابية منصات لنشر الخطاب العدائي، والترويج للانقسام، وتكريس الانتماءات الطائفية والحزبية الضيقة، إذ يتم استغلال حالة الاستقطاب المجتمعي لتأجيج المشاعر الطائفية والعشائرية، دون الاكتراث بالضرر العميق الذي تلحقه مثل هذه الخطابات بالوحدة الوطنية والنسيج الاجتماعي العراقي.
وغالبًا ما تفتقر الحملات السياسية إلى الاحترافية، وتعتمد على أساليب بدائية تركز على التشهير والتسقيط بدلاً من تقديم البدائل الواقعية. إذ يتكرر استخدام الإعلان السلبي كأداة مركزية، حيث يتم تشويه الخصوم وتشكيك الجمهور في إنجازاتهم، عبر حملات منظمة تفتقر إلى الدقة والنزاهة، وتُغذّي انعدام الثقة العامة في العملية السياسية. كما لا يتردد العديد من الفاعلين السياسيين في التقليل من شأن منجزات الآخرين وطمسها، في محاولة لاحتكار النجاح وتقديم أنفسهم باعتبارهم الخيار الوحيد القادر على التغيير، وهو سلوك يعكس غياب روح الشراكة والمصلحة الوطنية.
وتزداد خطورة هذه الحالة عندما تتحول الحملات السياسية إلى ساحات تعبئة طائفية ومناطقية، حيث تُستخدم الهوية الدينية أو العرقية كأداة للتجييش والتحشيد، مما يكرّس الانقسام العمودي داخل المجتمع ويُضعف من قدرة الدولة على إنتاج مشروع جامع تتوافق حوله مختلف مكونات الشعب..
في ظل هذا المشهد، تُستبدل البرامج السياسية بالشعارات الجوفاء والوعود المتكررة التي لا تجد طريقها إلى التنفيذ، حيث تُطرح ذات العبارات في كل دورة انتخابية دون تجديد أو مراجعة حقيقية، فيما تبقى الأوضاع على حالها أو تزداد تدهورًا.
أما البرامج، فكثير منها مستنسخ أو منقول بشكل سطحي من أطراف أخرى، ما يفقدها التميز ويجعل الحملات بلا ملامح واضحة أو توجهات فكرية متماسكة.
ولا يمكن تجاهل الدور الخطير للمال السياسي في تشويه المشهد العام، حيث يتم تمويل حملات انتخابية واسعة النطاق تعتمد على شراء الذمم وتوسيع شبكات الفساد، بدل بناء قواعد جماهيرية حقيقية قائمة على القناعة والولاء الوطني. وهذا الواقع يعيق صعود الكفاءات، ويمنح النفوذ لأولئك القادرين على الإنفاق لا أولئك القادرين على التغيير. كما أن سوء الإدارة الإعلامية للحملات يفاقم من ضعف الأداء، حيث تُدار الكثير من الحملات بطرق عشوائية أو دعائية مبالغ فيها، تفتقر إلى التحليل، وتُهدر الفرصة في الوصول الحقيقي إلى عقول وقلوب الناخبين.
أمام هذه الفوضى، فقد المواطن العراقي الثقة في العملية السياسية، وبات محاطًا بخطاب مزدحم بالتضليل والتخويف، مما أدى إلى تزايد العزوف عن المشاركة السياسية، وتراجع الأمل في إمكانية التغيير من خلال صناديق الاقتراع. في مثل هذا الواقع، تبدو الحاجة ملحة لإعادة النظر في مفهوم التسويق السياسي، وإعادته إلى مساره الصحيح بوصفه أداة تواصل نزيهة تستند إلى احترام عقل المواطن لا استغلال مشاعره، وتُبنى على برامج مدروسة تستجيب لحاجاته الفعلية لا على شعارات جوفاء تخدّر وعيه.
إن إصلاح هذا المسار يتطلب جهداً متكاملاً يبدأ من نشر الوعي السياسي وتعزيز الثقافة الانتخابية، ويمر عبر إصلاح القوانين والرقابة على الحملات، ولا ينتهي دون إرادة وطنية جادة تسعى إلى تجاوز الانقسامات، وبناء مستقبل سياسي يرتكز على النزاهة والكفاءة ووحدة المصير.