لقد سئم القراء التفسيرات السطحية لما يجري من أحداث سياسية على الصعيد العالمي حيث سرعان ما تسرع القنوات الاعلامية لاستضافة مختص لم يجد الوقت الكاف للبحث في جذور الحدث، وهذا ما يسيء للتحليل السياسي كعلم بشكلٍ رئيسي ويعيق الوصول إلى فهم دقيق للحدث، وهذا ما ينطبق على احتجاز ناقلتي النفط اليونانيتين من قبل حرس الثورة الاسلامية.
احتجزت قوّات “كوماندوز” بحريّة تابعة للحرس الثوري الإيراني لناقلتيّ نفط يونانيتين كانتا تُبحران مساء الجمعة في مياه الخليج قُرب السّواحل الإيرانيّة، حدثٌ له ما يبرره من وجهة النظر الإيرانية، وهذا التصرف في أحد أسبابه جاء انتقامًا لخطف ناقلة نفط إيرانيّة بطلبٍ أمريكيّ، ولكن ليس السبب المحوري، بل لا يجب أغفال الخرق القانوني الذي ارتكبته ناقلتي النفط اليونانيتين وهذا تحدٍ وانتهاك للسيادة الإيرانية التي لا تتوقف على البر بل عل البحر والجو، وهذا أمر بديهي.
سارعت القنوات الإعلامية والصحف لتناول الحدث لتحليل ما يحدث فأجمع البعض من أصحاب الباع الطويل في مجال التحليل الإعلامي والسياسي، ومنهم من أحترمه كالسيد عبد الباري عطوان الذي فسر الموضوع بشكل صحيح أصاب لب الموضوع ولكن باعتقادي أن تفسيره لم يكن وفياً كافياً، حيث أورد في تفسيره لهذا الحدث النقطتين الآتيتين:
الأوّل: إيران تُوجّه رسالةً قويّةً إلى اليونان وأمريكا، ودول الاتحاد الأوروبي الحليفة للاثنتين، بأنها سترد بالمِثل وفورًا، على أيّ عُدوان يستهدف ناقلاتها في المياه الدوليّة أو داخل أو خارج أراضيها.
الثاني: أن المُفاوضات النوويّة بين إيران والولايات المتحدة، ودول أوروبيّة أخرى في فيينا (فرنسا وبريطانيا) انهارت ولم يبق إلا إعلان فشلها بصُورةٍ رسميّة.
وبالتعقيب هذا الكلام صحيح فإن النقطة الأولى صحيحة من حيث المبدأ وبهذا السياق تندرج هذه لعملية ضمن سياق حرب الناقلات التي اندلعت بالآونة الأخيرة بين إيران وأعدائها المباشرين.
أما بالنسبة للنقطة الثانية لطالما أن الأمر تم بطلب أمريكي وأمريكا متهمة بشكل مباشر بعرقلة المفاوضات النووية فإنه لا يمكن عزل الحادث عن هذا السياق، ولكن هنالك تفاسير أخرى وبالمناسبة ما سلف من النقطتين سالفتي الذكر هو قراءة للحدث وسياقاته لا أكثر.
إذاً بالنتيجة إن التفسير السابق ليس تفسير بالمعنى الدقيق ولا ذكر للدلالات بمقدار ما هو قراءة للحدث وسياقاته لا أكثر.
بخصوص تفاسير الحدث، يمكن تفسيره من عدة نواحي:
أولاً: ردة فعل من منطلق المعاملة بالمثل: إنّ اليونان التي كانت البادئة بالعُدوان واحتجاز الناقلة الإيرانيّة “بيغاس” و19 بحّارًا روسيًّا من طاقمها، وصفت احتجاز إيران لناقلتيها اللتين يحملان في جوفهما حواليّ مِليونيّ برميل من النفط العِراقي.
ثانياً: رد فعل لخرق قانونية: لأنّ الدخول في المجال الإقليمي للمياه الايرانية بدون إذن يعد إنتهاكاً وجب التعامل معه بطريقه من الطرق ولقد اختارت إيران مبدأ المعاملة بالمثل.
ثالثاً: استخدامها كأداة حرب نفسية: أحصى الحرس الثوري الإيراني 17 ناقلة يونانيّة تتواجد حاليًّا في مِياه الخليج قال إنّها مُعرّضة للاحتجاز في أيّ لحظةٍ إذا تعرّضت ناقلات إيرانيّة للاختطاف.
رابعاً: إنّ لهذا الحدث سياقه التاريخي والدليل: في عام 2019م احتجزت إيران ناقلتين بريطانيتين ردًّا على احتجاز زوارق بحريّة بريطانيّة ناقلة إيرانيّة في مضيق جبل طارق، كانت في طريقها إلى سورية، وفي عام 2020م اعترضت الزوارق البحريّة الإيرانيّة ناقلة نفط كوريّة جنوبيّة، وصادت حُمولتها.
بالنتيجة نخلص إلى أهم الدلالات التي يمكن الخلوص لها منها أن قرار الرد بالمثل ليس جديداً بل متخذاً من قبل عكس من قرن الرد بزيارة الأسد الأخيرة إلى إيران وبإعلان حسن نصر الله الرد علانية، والكثير من الأدلة ثبت منها قيام الدّفاعات الصاروخيّة الإيرانيّة الأرضيّة، بإسقاط المُسيّرة الأغلى والأكثر تقدّمًا في سِلاح الجو الأمريكي (غلوبال هوك) في شهر حزيران (يونيو) عام 2019م، وقصف قاعدة “عين الأسد” الأمريكيّة غرب العِراق.
المهم بالأمر أنّ إيران تقول علانية بعدم السماح بضرب مصالحها أو المساس بها والاقتراب من المناطق ذات الأهمية الجيوستراتيجية بالنسبة لها ، كما أن لهذا الحادث مؤشرات تنامي القوة العسكرية الإيرانية للدرجة التي تجعلها تدخل في نطاق الفعل ورد الفعل مع قوى كبرى، وهذا له دلالات مستقبلية فحواها في حال تهديد مصالحها الاستراتيجية بمناطق نفوذها الهامة فإنّه ستدخل بمواجهه عسكرية ، ومن جهة أخرى إنّ لهذا الأمر مغباته السلبية وهو الوقوع في فخ الاستفزاز وهذا ما تخطط له القوى المعادية…….. وبذلك نكون فسر الحدث ولم نخرجه عن طاقاته الاستيعابية من التفاسير، وإلى هذا المراد نتمنى أن تتوجه أنظار المحللين السياسيين.
الدكتور ساعود جمال ساعود