مع ظهور بعض التداعيات للعملية العسكرية الروسية في اوكرانيا على الصعيد العربي لا سيما على الصف الخليجي، ذهب بعض المراقبين المحللين السياسيين والإعلاميين في تحليلاتهم إلى اعتبار ذلك مؤشّر لتوجّه دول الخليج نحو روسيا والصين وعكف مسار علاقاتهم عن الأمريكي، وهذه الفكرة أعتقد أنّها متسرّعة تحتاج إلى تدقيق وتحديد أكثر عمقاً.
هناك العديد من المعطيات تجعل من زيارة الأسد في هذا التوقيت لا يفهم منها إلا بكونها محاولة لتدعيم الموقف الخليجي الذي ينعكف نحو عن الأمريكي شيئاً فشيئاً، إلا إذا كان هنالك تسويات معينة بالتأكيد لن تقع بيد المحلل السياسي بموجب سريتها، و من هذه المؤشرات:
1. رفض زياره وزير الخارجية الأمريكي.
2. الإقبال على الصين وعرض التعامل معها على أساس عملتها الخاصّة ( اليوان وليس على أساس الدولار).
3. رجحان الكفة لصالح روسيا في حربها ضد أوكرانيا.
4. فقدان مصداقيه السياسة الأمريكية واشتهارها بالتخلي عن حلفائها.
5. ظهور حلف الناتو بمظهر الضعيف أمام التخطيط والسلاح الروسي.
6. ظهور أبواب جديدة للتحايل على العقوبات الاقتصادية الأمريكية.
7. إثبات تأمر الأمريكي على الأمن والاستقرار العالمي بدليل مختبرات الأسلحة البيولوجية.
8. ليس فقط التخلي عن الحلفاء بل والتضحية بهم فلا أحد يحلل بعمق يستطيع أن ينكر أن اوكرانيا شبه هديه أمريكية لروسيا.
ما لا أعلمه هل جاءت زيارة القائد المفدّى الأسد في بقرار سوري منفرد أم بالتشاور مع حلفائنا؟! لأنني أشك أن هذه الحركة الذكية والجريئة بمثابة ( ثأر متفق عليه)، وذلك لتعميق الشروع بالانحراف الخليجي نحو الصين وروسيا لا سيما أنّ الظروف الراهنة تمثّل بيئة مناسبة لمثل هذا الانحراف والذي من أهم ملامحه ما يلي:
1. شيوع استخدام السلاح في الوقت الراهن فروسيا ضربت أوكرانيا وإيران ضربت اسرائيل لذا فاحتمال استخدام القوة إقليمياً ودولياً أمراً وارداً في مثل هذه الظروف وخطر تخافه اسرائيل.
2. التزام روسيا وإيران بأمن حلفائهما عسكرياً والصين اقتصادياً يعطي مزيداً من الثقة لمن يميل نحو التعامل معهم سياسياً وعسكرياً واقتصادياً.
3. أنّ النصر الروسي في أوكرانيا في ظل تراجع هيبة الناتو سينعكس سلباً على الوجود الأمريكي في سوريا الأمر الذي سيثير احتمال قوي بالانسحاب من سورية لتبقى تركيا في الشمال السوري التي باعتقادي ستكون المفاوضات والمتغيرات الداخلية في ركيا كفيلة بانسحابها.
4. إنّ الإمارات تركز على الأمور الاقتصادية بشكل رئيسي وتتبنى في سياستها الخارجية نهجا براغماتياً عكس السعودية ذات التوجه الايديولوجي وهي تحرص على نصيها من الاستثمارات في سوريا لأن الاستثمارات لها أبعاد سياسية واقتصادية في الوقت ذاته.
5. إيران التي تعتبرها بعض دول الخليج خطراً في طريقها للتحرر من قيود العقوبات الاقتصادية لذا إنّ سوريا وسيط وضامن بذات الوقت لمزيد من التعاون والانفتاح الخليجي على إيران عبر البوابة السورية لا قد تكون سوريا أوصلت رسالة وعادت بسرعة وبفترة زمنية قصيرة.
6. دور سوريا كوسيط وضامن في كف يد اليمنيين عن الإمارات هنا فإنّه ل يوجد وثائق تثبت ذلك ولكن في حال صحة هذا التخمين، فإنّه سيكون مؤشر على الإستياء من مجلس التعاون الخليجي.
بالمجمل إن تتتبع المواقف الديبلوماسية للإمارات من سوريا منذ بداية الحرب سنجد ميلها إلى الاعتدال كنهج سياسي فلم تؤيد الإرهابيين أو المعارضة ولم تبق على علاقاتها مع الحكومة السورية لا سيما الدبلوماسية، حيث بقيت تتابع عن بعد لصالح من ستميل الكفة دون اتخاذ ما يحرجها وما يخرجها:
أولاً: ما يخرجها عن دائرتها المحلية والإقليمية والدولية.
ثانياً: ما يحرجها مع الدولة السورية رغم وجود تجاوزات مؤكّدة.
وهذا ما يثبت أنّها دولة تركض خلف مصلحتها(أين هي ؟ ومع من؟ ومتى؟) ولا تنغمس في صراعات إيديولوجية عقائدية دينية لا يعرف بدايتها من نهايتها ولا تكاليفها، فهذه حرب عشوائية اعتباطية أثبتت أنّ الإمارات تتبنى نهجاً براغماتياً تضاهي به الدول المتقدّمة.
من وجهة نظري إن زيارة الأسد التي استغرقت ساعات بعد سنين طوال لم تكن لعودة الدبلوماسية التي لم تقطعها بالأصل ولا بالمنافع الاقتصادية والسياسية التي كانت لتجنيها، بل جاءت لوضع الإمارات في خانة اليك لتحديد موقعها مما يحصل في عالم اليوم في ظل مرحلة انتقالية يشهدها العالم من أحادية قطبية إلى عالم متعدد الأقطاب أو على الأقل عالم بدول كبرى مناهضة للأمريكي لا يستطيع تجاوزها خصوصاً في ظل بروز بوادر تغيير عام خليجي ليست ثابته وتحتاج زمناً طويلاً لإعلانها لإنّ لهذا الأمر محدّداته من قبيل ما يلي:
أولاً: طبيعة علاقة الأمريكيين والأوربيين مع دول الخليج ونظرتهم لهم، فترامب قال: “السعودية بقرة حلوب”، أين قادة السعودية؟ هل يسرهم هذا الوصف؟! بالتأكيد لا، هم دولة أموية محورية في الشرق الأوسط.
ثانياً: الجهة التي ستميل لصالحها كفة الموازين القوى سواء أمريكا أو الصين.
ثالثاً: التوجّه العام لدول مجلس التعاون الخليجي، فدول المجلس إمّا أن تثير جميعاً بطريق واحد بموجب الإطار الموحّد لها أي مجلس التعاون الخليجي ، وإما أن تسير فرادى وهنا ستواجه تحديات جمة، لذا جاءت زيارة الأسد بالإمارات بموافقة ضمنية خليجية عامة حسب اعتقادي ودور الإمارات هنا ناطق رسمي باسم المجلس، وعلى الأغلب هنالك (تسويات تقابلها تنازلات) لكن من الذي سيتنازل؟ هذه أمور سرية تستعصي على التحليل السياسي.
رابعاً: المخاوف العسكرية لدول الخليج من الأمريكي وحلفائه وهذا سبب محوري مؤثر بالغ الخطورة.
خامساً: عدم قدرة دول الخليج على التحرر من تسلط الأمريكي بما في ذلك السير بخط سياسي مناهض للأمريكي في ظل وجود أمريكا عسكرياً وتغلغلها باقتصادهم وتطبيعهم مع “إسرائيل”.
بالنتيجة: إذاً الحديث عن مؤشرات وتحوّل مسارات دول الخليج عن الأمريكي هو أمرٌ مبالغ فيه ولا صحّة له، ولا تزال دول الخليج تابعة أمريكياً وأوربياً وبحال الطبيعة تقيم علاقات طيبة مع الصيني والروسي دون الدخول بصدام مع أعدائهم ومنافسيهم .
إذاً اليوم إيران والاستثمارات؛ أوراق سوريا الرابحة للعب دور الوسيط والضامن عند دول الخليج، إضافة إلى مكانة الإمارات كمفتاح للخروج من (بئر العزلة والحصار) المفروض على سوريا على الأقل على الصعيد العربي، ومن المبكر أن توتي زيارة الأسد ثمارها فما زالت سورية تحت الحصار والعزلة والإمارات تابعة أمريكياً وروسيا لم تحسم أمر تحطيم السطوة الأمريكية والأوربية بعد، والصين ملتزمة للصمت رغم أنها إقتصادياً بحاجة إلى ثروات الصديق والعدو لإشباع حاجاتهم من موارد الطاقة.
الدكتور ساعود جمال ساعود