فاليري نيكولايفيتش جاربوزوف مدير معهد الولايات المتحدة الأمريكية وكندا دراسة مطولة في صحيفة غازيتا زافيستمايا الروسية المستقلة تحدث بها عمّا سمّاه الأوهام المفقودة في العصر الماضي، تحدّث فيه عن ثلاثة برامج جيوسياسية” أحدها البرنامج الروسي.
روسيا كونها الوريث الرئيسي للقوة العظمى السوفييتية التي نشأت على أنقاض الإمبراطورية الروسية، لديها مدارها الخاص، وجدت نفسها رهينة لمجمعها الإمبراطوري الخاص، وهذا على وجه التحديد ما يفسر سلوكها الحالي في السياسة الخارجية و”المشاكل التي تجلبها للعالم”.
هناك سر خطير مفاده: أنّه بعد انهيار الإمبراطوريات الاستعمارية، شهدت جميع العواصم الحنين الحتمي إلى العظمة المفقودة – ما يسمى بـ” متلازمة الحنين لما بعد الإمبراطورية ” بعد أنّ انهارت القوة الاستعمارية السابقة.
على سبيل المثال، لم يكن ونستون تشرشل سعيدًا بالنصر في الحرب العالمية الثانية، لأنه لم يكن مستعدًا لما حصل، فبعد أن نشأ وتشكل في الإمبراطورية البريطانية، لم يستطع أن يتصالح مع حقيقة أن هذه الإمبراطورية كانت تنهار أمام عينيه، كذلك الأمر بالنسبة لمعاصره الجنرال شارل ديغول الذي نشأ في المجتمع الفرنسي بوعي إمبراطوري، ولم يستطع التعود على حقيقة أن فرنسا كانت تفقد مستعمراتها بشكل لا رجعة فيه واحدة تلو الأخرى. وهنا يعلّق مدير معهد الولايات المتحدة الأمريكية قائلاً:” ولكن بعد التغلّب على مشاعرهم الإمبراطورية، ما زالوا قادرين على التكيّف مع الوضع الجديد بشكل أساسي“.
وروسيا – بحسب جاربوزوف – تمر اليوم بمتلازمة ما بعد الإمبراطورية المؤلمة للغاية، تحاول أيضًا تشكيل برنامجها الجيوسياسي العالمي، لكنها لا تزال هشة للغاية وغير مستقرة وانتقائية ، ويتابع طالباً من القارئ أن يحكموا على قوله بأنفسهم: ” يعتمد البرنامج (بدلاً من ذلك مجموعة من المبادئ التوجيهية) على مزيج من أفكار الأورآسية، و”العالم الروسي”، والمعاداة لأمريكا، والمواجهة مع العالم الأحادي القطب والغرب المتحلل ككل، كما أنّها تحتوي على أفكار “الديمقراطية السيادية”، و”الشعب العميق”، والشوق إلى القيم التقليدية والعقيدة الأرثوذكسية.
يتابع فيقول:” هذا الخليط يربط بين مكوناته المتباينة في بعض النواحي، يذكرنا هذا المزيج بالاختراعات الأيديولوجية المناهضة للغرب منذ ما يقرب من 200 عام – “نظرية الجنسية الرسمية” للكونت سيرجي أوفاروف:”القائمة على ثالوث: (الأرثوذكسية + حكم الفرد المطلق + الجنسية)؛ أوفاروف الذي شغل منصبي الرئيس الدائم للأكاديمية الإمبراطورية الروسية للعلوم لمدة 30 عامًا، وبالوقت نفسه منصب وزير التعليم العام. حيث مثّلت نظرية الجنسية التجسيد الأيديولوجي للملكية الروسيةإلى جانب الأرثوذكسية والدعم المضمون للشعب من قبل “الحكومة الاستبدادية”، أن تعمل كضامن موثوق لوجود وعظمة روسيا.
أما فيما يتعلّق بالنزعة المحافظة التي تعشقها السلطات الروسية الحالية – حسب رأي فاليري نيكولايفيتش جاربوزوف- يعلق عليها بقوله:
1- ليست واضحة المعالم.
2- لا توجد نزعة محافظة واحدة وخالدة وعالمية في العالم.
3- علاوة أن النزعة المحافظة كانت موجودة في روسيا في بداية القرن العشرين، والتي تُتخذ أحيانًا كنموذج اليوم، إلا أنها لم تعد تتناسب مع الظروف الحالية.
تظهر روسيا الحديثة على أنّها الوريث الرئيسي للقوة العظمى السوفييتية وتشعر بالحنين إلى عظمتها الماضية ونفوذها المفقود، تعاني اليوم من متلازمة ما بعد الإمبراطورية المتأخرة، على الرغم من حصتها الصغيرة في الاقتصاد العالمي، لا تزال تتمتع بشحنة توسعية قوية، وطموح لم يُكشَف بعد عن النفوذ الجيوسياسي العالمي.
تتمتع روسيا الحديثة بتجربة غنية في التوسع الشيوعي المرتبط بأنشطة الكومنترن، وسرعان ما خلقت مجالًا لنفوذها الإقليمي والعالمي بعد النصر في الحرب العالمية الثانية، وخسارته على الفور مع انهيار الاتحاد السوفييتي، لذا نجد روسيا الحديثة تحاول حتى الآن “دون جدوى للانتقام المتأخر” ، ولتحقيق هذه الغاية، شرعت في إنشاء جمعيات تكامل جديدة (منظمة معاهدة الأمن الجماعي، الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، منظمة شنغهاي للتعاون، البريكس)، وبالتالي تشكيل مجالاتها ومساحاتها الجيوسياسية الخاصة، ويضيف فاليري نيكولايفيتش جاربوزوف قائلاً: ” كانت روسيا تسعى إلى تحقيق نفس الأهداف من خلال استراتيجية الطاقة التي كانت ناجحة ذات يوم، والتي كان ينظر إليها في العالم ليس فقط باعتبارها أداة لتأمين أسواق يمكن الاعتماد عليها لموارد الطاقة، بل وأيضاً باعتبارها عنصراً أساسياً في تنظيم مجالات نفوذها العالمي.
محاولة الالتفاف حول نفسها على منصة مناهضة للغرب للشعوب المستعمرة السابقة والمضطهدة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وإشراكهم في القتال ضد البلدان “التي تدفع هيمنتها العالمية” و”المليار الذهبي” الذي يهيمن على العالم لعقود من الزمن، تزعم روسيا اليوم أنّها زعيمة “الأغلبية العالمية”، ورغم ذلك روسيا لم تتمكن بعد من منافسة الولايات المتحدة والصين وتصبح قاطرة جيوسياسية مستقلة مناهضة للغرب، وبمساعدة أساطير الدولة التي تم إنشاؤها حديثًا، من غير المرجح أن تكون قادرة على القيام بذلك.
والغرض من كل هذا واضح تمامًا: إغراق الفرد بمجتمعه في عالم من الأوهام، مصحوبًا بالقوة العظمى والخطابة الوطنية، والاحتفاظ المتعمد وغير المقنع بالسلطة إلى أجل غير مسمى بأي ثمن، والحفاظ على الملكية والنظام السياسي من قبل الدولة، النخبة الحاكمة الحالية والأوليغارشية اندمجت معها ، وفي ظروف عصر المعلومات، واستبدال الواقع بالأوهام، تبدو روسيا متجمدة في الماضي، ولا تزال تعتمد على القيصر الأب أو أي يد قوية أخرى للسلطة العليا، بينما تحاول دون جدوى استعادة عظمتها السابقة، وممتلكاتها المفقودة و النفوذ العالمي.
يبدو أن أتباع الاستبداد المحليين الحاليين (مثل مرازبة الاستبداد الشرقي القديم الذي غرق في غياهب النسيان)، خاليون تمامًا من الوعي التاريخي، دون تردد، وبعاطفة مؤثرة، يربطون بصدق رئيس الدولة بالدولة نفسها، الحاكم المؤقت للدولة. البلد ذو الثوابت الوطنية والتاريخية الكبيرة.
نبذة عن المؤلف: فاليري نيكولايفيتش جاربوزوف – عضو مراسل في الأكاديمية الروسية للعلوم، ومدير معهد الولايات المتحدة الأمريكية وكندا الذي يحمل اسمه. الأكاديمي ج. أرباتوف راس.