شكّلت الولايات المتحدة الأمريكية على امتداد تاريخها السياسي برنامجها الجيوسياسي الخاص القائم على أفكار: الاستثناء الأمريكي، والمسيحانية، وعالمية القيم الأمريكية، والهيمنة الأمريكية والقيادة التي لا يمكن إنكارها عالميا، وعمدت إلى نشر قيمهم ومؤسساتهم الخاصة خارج حدودهم من خلال اتباع سياسة التوسع العالمي، وتحولوا في النصف الثاني من القرن العشرين إلى “إمبراطورية رسمية” للعالم الحديث، وحصلوا لفترة طويلة وما زالوا على مكانة القوة العظمى الرئيسية في العالم.
وبالنسبة للصين، فقد شرّعت الصين في النصف الثاني من القرن العشرين في السير على طريق تشكيل مسارها العالمي الخاص، وكانت مراحلها الرئيسية هي: إصلاحات دنغ شياو بينغ، وسياسة “حزام واحد – طريق واحد”، ومفهوم “خلق مجتمع ذي مصير مشترك للبشرية ، ولقد هدفت جميعها بطريقة أو بأخرى إلى تحقيق مكانة رائدة “للإمبراطورية الصينية” على طريق التقدم العالمي.
وهنا يتوضح القاسم المشترك بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، إذ هما إمبراطوريتان غير رسميتين للعالم الحديث ، علاوة على ذلك، فإن هاتين الإمبراطوريتين؛ اللتين ولدتا في أجزاء مختلفة من العالم في عصور مختلفة، متشابهتان جدًا في أساليبهما في نشر نفوذهما العالمي، وليس من قبيل الصدفة أن محور المواجهة الرئيسي في العالم الحديث يقع على وجه التحديد بينهما.
وأما القرن الحادي والعشرين فقد أتسم بظهور صراع جيوسياسي جديد بين الولايات المتحدة والصين، ويتمثل هذا الصراع في المنافسة بين المشروعين الجيوسياسيين الصيني والأمريكي، حيث يسعى كل منهما إلى تحقيق أهدافه ومصالحه الخاصة من خلال بناء نظام دولي يتوافق مع رؤيته. يحقق لهما الهيمنة على النظام العالمي كلا بأسلوبه.
وخلال القرن(21) أستمرت أسس المشروعين الجيوسياسييين لأمريكا الصين مع تحوير بسيط في الشكل دون الجوهر، وبالنسبة للصين فقد استند مشروعها الجيوسياسي إلى مفهوم “الطريق والحزام” الذي أطلقه الرئيس الصيني شي جين بينغ في عام 2013م، ويهدف هذا المشروع إلى إنشاء شبكة عالمية من الطرق والسكك الحديدية والبنى التحتية الأخرى، بهدف تعزيز التجارة والاستثمارات بين الصين ودول العالم، ويسعى المشروع إلى تعزيز التعاون الاقتصادي والثقافي بين الصين والدول الشريكة، بهدف تعزيز دور الصين في النظام العالمي.
بالمقابل استند المشروع الجيوسياسي الأمريكي إلى مفهوم “النظام الدولي القائم على القواعد” ؟! الذي دافع عنه رؤساء أمريكا من بوش الأبن إلى جو بايدن، يهدف هذا المشروع إلى الحفاظ على النظام العالمي القائم على القواعد الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية، والذي يتميز بإشاعة وشيوع شعارات مثل “سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان والديمقراطية”، وسعى المشروع أيضاً إلى تعزيز دور الولايات المتحدة في النظام العالمي، بهدف الحفاظ على مصالحها وقيمها.
وبالعموم يقوم المشروع الجيوسياسي لأي دولة مقتدرة على ثلاثة أسس ( الهدف- الوسيلة – التوجه)، وللوقوف على حيثيات المشروعين الجيوسياسيين الصيني والأمريكي من الأفضل المقارنة بينهما من الجوانب الثلاث المذكورة آنفاً:
أولاً: الأهداف: يسعى المشروع الجيوسياسي الصيني إلى تحقيق النمو الاقتصادي والازدهار للبلاد، وتعزيز دور الصين في النظام العالمي، بالمقابل يسعى المشروع الجيوسياسي الأمريكي إلى الحفاظ على النظام العالمي القائم على قواعد (الحرب -ع -2)، وتعزيز دور الولايات المتحدة في النظام العالمي.
ثانياً: الوسائل: يعتمد المشروع الجيوسياسي الصيني على الاستثمارات الاقتصادية والبنية التحتية والتعاون بين الصين والدول الشريكة، في حين يعتمد المشروع الجيوسياسي الأمريكي على القوة العسكرية والنفوذ الدبلوماسي، والتعاون بين الولايات المتحدة وحلفاءها عسكرياً.
ثالثاً: التوجّه: يتميز المشروع الجيوسياسي الصيني بتوجه اقتصادي أكثر، ويسعى إلى تعزيز التعاون بين الصين والدول الشريكة، ولكن يتميز المشروع الجيوسياسي الأمريكي بتوجه أمني أكثر، ويسعى إلى الحفاظ على النظام العالمي القائم على القواعد.
بالنتيجة وبكل موضوعية يشكل المشروعان الجيوسياسيان الصيني والأمريكي أساساً للصراع الدائر على الساحة الدولية، ويسعى كل منهما إلى تحقيق أهدافه ومصالحه الخاصّة، مما سيؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار وعدم اليقين في النظام العالمي.
بالمقابل إنّ مستقبل النظام العالمي سيعتمد على نجاح كل منهما في تحقيق أهدافه ومصالحه، بالطرق التي تجنبهما الصدام، والمتوقع المثبت أن يستمر الصراع الجيوسياسي بين الولايات المتحدة والصين خلال الحقب الزمنية القادمة في العلن والخفاء.