جرى منذ أيام قلة الإعلان عن عودة العلاقات الإيرانية السعودية إلى سابق عهدها قبل عام 2016م عبر اتفاق ثنائي بوساطة صينية، بعد سلسلة زمنية مليئة بالتوتر إزاء ما بينهما من ملفات استعصت عن الحل، هذا الحدث الذي استقبلته دول العالم بالترحيب والإشادة بالجهود الصينية المبذولة، ووصل الأمر ببعض الدراسات والتحليلات إلى القول بانحسار النفوذ الأمريكي بالشرق الأوسط، الأمر الذي يحتاج لنظرة متأنية.
من جهة الصين، لم تكن الوساطة الصينية التي تعكس نظرتها لتسوية المنازعات الدولية من جهة وسعيها لإحلال السلام والأمن الدوليين، مستغربة لا سيما بعد طرحها لمبادرة الأمن العالمي وما تضمنته من حلول لتسوية الأزمة الأوكرانية، أكّدت بمجمل مبادرتها على احترام أمن وسيادة الدول واستقلالها وعدم التدخل بشؤونها واحترام القيم والقوانين الدولية، وغيرها من المبادئ التي رأت أمريكا وحلفائها تخدم المصالح الروسية، فما كان منها إلا أن تأخذ موقفاً سلبياً من هذه المبادرة، والمهم بالأمر هو الدور الصيني لإحلال الأمن والسلام العالميين.
من جهة الدولتين الأكبر إسلامياً، فقد صرّح وزير الخارجية الإيراني بأن الرئيس الإيراني طلب أثناء زيارته للصين من الرئيس تشي جي بينغ القيام بدور الوسيط بينهم وبين السعودية، التي لبت الطلب الإيراني، علماً أن الطلب الإيراني من الصين غير مستغرب بالنظر إلى القواسم المشتركة بينهما.
الغريب ما صرّح به رئيس الاستخبارات السعودية يوم الثلاثاء 14/3/2023م في مقابلة أجراها مع وكالة AFP الفرنسية، إذ قال:” لم يكن من الممكن لا للولايات المتحدة ولا لأوروبا أن تكون “وسيطاً صادقاً” في السعي لعقد اتفاق بين السعودية وإيران من قبيل الاتفاق الذي توسطت الصين لإنجازه بين البلدين”، وإن مثل هذا التصريح من شخص تربى في الدوائر المغلقة داخل السعودية لا يصدر عبثاً، ويشير إل فقدان الثقة في دوائر صنع القرار السعودي بحليفهم الأمريكي لصالح الصين التي تتمتع بالمصداقية في طروحاتها السياسية ومساعيها الفعلية لإحلال الأمن والتنمية مع دول العالم، ولبعد نهجها السياسي عن استخدام القوة العسكرية والتدخل بالشؤون الداخلية للدول.
وبعيداً عن المبالغات التي طالت الاتفاق، وبغية الوصول إلى تحليل قريب من الواقع والمنطق، فإنه يمكن القول، إنّ دلالات نجاح الوساطة تذهب إلى الرغبة الصادقة بين إيران وجيرانها برأب الصدع وتسوية الملفات العالقة، واعتماد الأسلوب السياسي كأداة لحل المشاكل، والتفرغ للبناء والتعاون الاقتصادي، وتفعيل ما بينهما من قيم مشتركة لتحقيق مكاسب سياسية بالاستفادة من خمود الثقة الخليجية بالأمريكي لصالح الصيني إثر الفروقات بالنهج السياسي والعسكري، الذي يراعي سيادة واستقلال الدول علاوة على اعطاء الصيني الأولوية للجانب التنموي المتمثّل بتنمية العلاقات الاقتصادية مع دول العالم بدلاً من اشغال والحروب وتغذية النزعات الدولية، الأمر الذي أكسب الصين ثقة عالمية تمهّد لانضمام دول جديدة لحلفها وانشقاق دول أخرى عن الأمريكي واللحوق بركب الصين، ودول الخليج هي أكبر مثال.
حول مفرزات هذا الاتفاق وما كشفت عنه وبدون ارتجاليات، فإن الاتفاق السعودي الإيراني كشف عن نفور حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية منهم، ومحاولاتهم لإيجاد بديل بعد سلسلة من المتغيرات الدولية التي أظهرت ضعفهم منها العجز عن كسر القوة الروسية، والتفوق الاقتصادي الصيني، ونجاح اسلوبها الناعم على حساب القوة الصلب للأمريكي، ولكن لا يمكن القول بانحسار النفوذ بالشرق الأوسط فإن قواعده العسكرية وأساطيله متواجدة وقادرة على قلب أي دولة لا سيما دول الخليج.
وكل ما في الأمر أن الإدرار الأمريكية الحالية تنفذ استراتيجيات جديدة بتوجيه الاهتمام الأميركي، وتوحيد الجهود في العقود المقبلة نحو الصين والمحيط الهادئ، لذلك فإنّ التخفيف من أحمال الشرق الأوسط، أصبح ضرورياً للتفرغ لمواجهة الصين، وبالفعل هذا ما نصّت عليه استراتيجية الأمن القومي في مستهل عهد الرئيس دونالد ترامب منذ عام 2017م، لذلك إن الأمريكي لا يتصرّف عن ضعف ولا عبثاً، إذ أن مراكزه البحثية ودوائر صنع القرار تركز على مكامن ضعفهم ونقاط قوة منافسيهم بهدف الاستمرار والسيطرة العالمية المستدامة، ولندع الحديث عن تعددية قطبية جانباً على الأقل في الوقت الحاضر.
بالنتيجة، إنّ جلّ ما يمكن قوله إنّ القواعد الأمريكية ما تزال مستمرة بتواجدها، وهذا بحد ذاته نفوذ ثابت، ولئن حقق الاتفاق شيء فعلي، فإنّه يتمثّل بكون الصين بحركتها هذه قد فوتت على الولايات المتحدة الأمريكية فرصة استغلال دول الخليج بحجة الدفاع عنها، ودليل هذا ما أفصحت استراتيجية الدفاع الوطني إدارة الرئيس دونالد ترامب إلى “توسيع آليات التشاور الإقليمي” و” تعميق قابلية العمل البَيني” لتقاسم أعباء الدفاع عن حلفاء أميركا حول العالم ومصالحهم، حيث كانت إيران والتخويف الأمريكي منها بمثابة الأداة المفضلة للأمريكي لإثارة الرعب في قلوب قادة الخليج بحجة النووي وغيرها، لذا إنّ هذا الاتفاق الذي أخذ منذ بداية طابعاً أمنياً، قد فوّت الفرصة على أمريكيا للضغط على دول الخليج تحت مبررات ودعاوي الدفاع عنها، ولقد فتح توقيع الاتفاق المجال أما تسوية العلاقات الإيرانية مع بقية دول مجلس التعاون الخليجي بدليل محادثات أمس مع البحرين على خلفية الاتفاق، الأمر الذي يقلل من الاستغلال والاستثمار السياسي الأمريكي لدول الخليج، علماً أنّ الانكباب بالمطلق على الصين يتوقف على حسم الصين للملفات الخلافية بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي سينعكس على الالتحام بها كقطب مناوئ للأمريكي.
بقلم الدكتور ساعود جمال ساعود