لا يجد المراقب لتطوّر النظرة المتخوفة للولايات المتحدة الأمريكية من الصين فرقاً بين ما نصت عليه استراتيجية الأمن القومي الأمريكي لعام 2022م، وبين ما أوردته الاستراتيجية الأمريكية للدفاع الوطني للعام 2018م من حيث النص على التنافس مع الصين كأولوية قصوى و أمر واقع تم ترجمته أمريكياً بأكثر من وثيقة سواء عسكرية أو أمنية طويلة أو قصيرة المدى. فقد تم ملاحظة التحركات الأخيرة لأمريكا في تايوان التي تحظى بدعمهم العسكري والسياسي إزاء أي محاولة لإعادتها إلى الوطن الأم، خوفاً على مصالحهم في المحيط الهادئ وبحر الصين الجنوبي ومضيق تايوان، ولحرمان النمو الصيني من الاستفحال. لقد رأينا كيف يتم العمل على الشروع بالمزيد من القواعد العسكرية في الفلبين، وكيف تم الإعلان عن تزويد اليابان بقرابة 400 صاروخ توما هوك، علاوة على المناورة العسكرية التي تجريها كلاً من اليابان والولايات المتحدة، الأمر الذي يفهم منه بأنّها محاولات تطويق للصين. وبالطبع الصين تدرك هذه المحاولات بشقيها العلني والخفي، ولا تدخر أي جهد للعمل على عدم انزلاق الأمور مع الأمريكي نحو الأسو، حيث تكررت الدعوات الصينية مؤخراً للأمريكيين على لسان الدبلوماسيين الصينيين للتوقف عن التصعيد والكف عن ممارسة السياسات العدائية والتطويق والتصعيد ضد الصين، التي كانت تقابل الأمور بالتهدئة، ولكن المؤشرات الأخيرة خصوصاً مع تعيين وزير دفاع جديد معاقب أمريكياً له دلالات توحي بالتحدي للأمريكي، وعدم الانصياع والمبالاة بقراراتهم وتحركاتهم. ومهما فعلوا لا يمكنهم تجاهل الصعق الصيني لهم إبان ارتداء الرئيس الصيني للباسه العسكرية ملوحاً بالخيار العسكري قبل قمة العشرين ومؤتمر إيباك، يوم جلس بايدن مصرحاً أن ما بينهم وبين الصيني؛ محض تنافس لا صراع، لتفضح الممارسات والتصريحات العلنية للمسؤولين الأمريكيين زيف هذا الادعاء والحقيقة إن لدى أمريكا ما يجعلها تخشى الصين وتعمل على إضعافها. وبالأمس قامت أمريكيا ببيع غواصات نووية لأستراليا ليكتمل تسليح الحلفاء في حال تم ما يخشاه المجتمع الدولي من حرب محتملة، رغم أنني أعتبر هذا الاحتمال هراء بعيد المنال. وبالنقل للخبر عن موقع روسيا اليوم، فقد رأت الصين أن الولايات المتحدة وأستراليا وبريطانيا تنتهج درباً “خطيراً لتحقيق مآرب ذاتية جيوسياسية”، وذلك تعقيباً على اتفاق “أوكوس” الذي ستحصل بموجبه أستراليا على غواصات نووية أمريكية حيث خرج المتحدث باسم الخارجية الصينية، وانغ وين بين:” إنّ اتفاق مجموعة “أوكوس” ينبع من “عقلية الحرب الباردة التي ستحفز فقط سباق التسلّح”، هذا ويدرك الأمريكيين اليوم ما وصل إليه التفوق التكنولوجي في مجال الصناعات العسكرية لدى المحاور المناوئة لها، حيث الاتجاه الغالب للصين ولروسيا وإيران حماية أمنهم القومي، وبالتأكيد لن تسمح روسيا التي حطمت مكامن قوة أوكرانيا ولا الصين رغم نفسها الاستراتيجي بعيد الأمد باختراق أمنها، مما سيقود إلى الرد الذي تختلف أشكاله أحدها تسابق بالتسليح، الأمر الذي سيكون له انعكاسات سلبية من قبيل ما حدّده المتحدّث باسم الخارجية الصينية:” تضر بمعاهدات حظر الانتشار النووي الدولي، وتشكّل خطراً على السلام والاستقرار الإقليميين”. وأضاف: “يظهر البيان المشترك الأخير الصادر عن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا أن الدول الثلاث توغلت في المسار الخاطئ والخطير بغية تحقيق مآرب ذاتية جيوسياسية، ضاربة عرض الحائط بمخاوف المجتمع الدولي ، وجدّد التأكيد أن الاتفاق يشكّل خطراً جسيما بنشر الأسلحة النووية، وانتهاك هدف وغرض معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية”، مضيفاً: “الدول الثلاث تدعي أنّها ستلتزم بأعلى معايير عدم نشر الأسلحة النووية، وهذا محض خداع”. ويذكر أن الرئيس الأمريكي جو بايدن قد توجّه إلى سان دييغو للقاء رئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيز ورئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، حيث أشادوا بالشراكة النووية التي بدأت منذ 18 شهراً، والتي ستمكن أستراليا من الحصول على غواصات تعمل بالطاقة النووية، قادرة على التخفي، وأكثر كفاءة من الغواصات التي تعمل بالوقود التقليدي، كثقل موازن للحشد العسكري الصيني. بالنتيجة، إنّ الواقعية بالتحليل السياسي تقتضي باستبعاد احتمال العمل على التخطيط لحرب قريبة، ولكن ذلك لا يلغي حزمة الإجراءات الاحترازية والاحتياطات التي تتخذها الولايات المتحدة الأمريكية ضد الصين، الأمر الذي يفرض على الصين عدم تجاهل هذه الخطوات، بل يجب اعتبارها عدائية، واللجوء إلى تدابير أمن قومية واقعية بعيداً على الاكتفاء بالإدانة السياسية التي لا تقدم ولا تؤخر سيما مع الأمريكي الذي يفهم فقط بلغة القوة، وإنه لذكاء من الاستراتيجيين الأمريكيين ترك ساحة الشرق الأوسط مكبلة بقيود قواعدها العسكرية قرب مراكز النفوذ الفاعلة، والالتفات إلى مناطق نفوذ العملاق الأسيوي الذي قارب في إيصال العالم إلى أعتاب التعدّد القطبي، ومع تقديري لمن عوّل على تزايد النفوذ الصيني في الشرق الأوسط على حساب ما سمّوه انحسار بالنفوذ الأمريكي، فإن الصين أذكى من أن تترك مناطق استهدافها عن قرب لتنشغل بمستنقع الأزمات المستعصية أي دول الشرق الأوسط، التي تركها الأمريكيون جثة هامدة بعد مص دمائها علاوة على الوجود العسكري الضخم للأمريكي على أرض الواقع مقارنة بالوجود الصيني للأسف، لذا يمكن اعتبار حركة التسليح النووي الأمريكي لأستراليا حركة لتفريغ مضمون النصر الدبلوماسي الصيني في الشرق، لأن الصين نجحت بإحباط المساعي الأمريكية لاستثمار الخوف الخليجي من جارتهم إيران، لذا كان النووي بيد الاسترالي والقواعد بالفلبين وتوما كروز باليابان والدعم لتايوان ردود متتالية متسلسلة تستهدف الصين، الأمر الذي يحتم تحرّكاً سريعاً صينياً بداية بالسبيل الدبلوماسي وإجراء مفاوضات مباشرة وصولاً إلى وضع خطط فعلية لإعادة تايوان وما سيترتب عليه من خسائر واستراتيجية ستصيب الأمريكي وحلفائه.
بقلم د.د. ساعود جمال ساعود