رغم وصول المفاوضات النووية الإيرانية إلى أعتاب النهاية وعودة أمال الفورة الاقتصادية الإيرانية إلا أنّ الولايات المتحدة الأمريكية تستمر بمحاولات التضييق على إيران والدليل ما صدر عنها منذ بضعة أيام من عقوبات، تستهدف العقوبات رجل الأعمال الإيراني محمد علي حسيني و”شبكة شركاته” بسبب شراء مواد متعلقة بوقود الصواريخ الباليستية لمصلحة الحرس الثوري الإيراني، كما شملت العقوبات شركة “بارشين” للصناعات الكيميائية، والتذرّع بما سمتّه الهجوم الإيراني على أربيل (شمالي العراق) في 13 مارس/آذار الجاري، وإتهام إيران بهجوم جماعة الحوثي على مصفاة أرامكو في السعودية يوم 25 من الشهر نفسه، هذه العقوبات التي تندرج ضمن المسائل الحسّاسة والقضايا العالقة قبل وأثناء اتفاقيات فينا بين الطرفين الإيراني والأمريكي نتيجة التقاطع في وجهة النظر حيال هذا الموضوع، حيث يعتبر الأمريكي أن فرضه لعقوبات على متعلقات النشاط العسكري الإيراني لا يمس للاتفاق النووي بصلة، الأمر الذي ترفضه إيران وتعتبره أمراً سيادياً لا يقبل المساومة ولم تتنازل عنه رغم ما واجهته من تحديات أثناء مفاوضات فينا، وبالمجمل كان لهذا الإجراء الأمريكي الذي زعزع الثقة بالأمريكية وكشف نواياه كالعادة أن يؤثر سلباً على الوضع الإيراني لا سيما على إنجاز المرحلة النهائية من اتفاق فينا وبالتالي لما يمكن أن ينجم عنها من تداعيات على مكتسبات ما بعد الاتفاق خصوصاً المزايا الاقتصادية.
الغريب بالأمر أن النشاط الاقتصادي في إيران رغم الظروف السياسية والاقتصادية الراهنة بقي مستمراً في طريقه للنمو باطراد، ملبياً لحاجات الشعب الإيراني وإن لم يصل بهم لدرجة الرفاهية، حيث تضافرت الآونة الأخيرة جملة من المؤشرات التي توحي بعودة الاقتصاد الإيراني إلى سابق عهده قبل العقوبات الاقتصادية الأمريكية ومن هذه المؤشرات نذكر:
أولاً: قال نائب رئيس المصرف المركزي الإيراني للشؤون الدولية، محسن كريمي: “إن إيران بإمكانها إجراء العمليات التجارية مع روسيا بالعُملات الوطنية للبلدين، مؤكداً وجود اتفاقات بهذا الشأن. ومن المعروف أن هذا يعكس حرية تصرفها وسيطرتها التامة على ثرواها دون إقامة اعتبار للقيود المفروضة دولياً، وهذا الإجراء يستهدف الحد من قيود الدولار سيما في ظل القواعد الاقتصادية التي فرضتها روسيا على الساحة الاقتصادية العالمية مما ينذر بقيام تحالفات مستقبلية اقتصادية الطابع بين الدول التي يوحدها الرغبة في الحد من سيطرة الدولار.
ثانياً: كشف المدير التنفيذي لشركة النفط الوطنية الإيرانية، محسن خجسته مهر، عن قدرة إيران بإنتاج النفط والغاز لمئة سنة قادمة قائلاً : “تتبوأ إيران المرتبة الأولى عالمياً في احتياطيات النفط والغاز، وتستطيع الاستمرار في الانتاج الى 100 عام قادم كحد أدنى، إذا استمر مستوى إنتاجنا على الوضع الحالي”. وهذا مقوم قوة من عدة نواحي: المجال الداخلي لسد حاجات الإيرانيين والنهوض بمتطلبات النمو الاقتصادي الإيراني، مقاومة العقوبات الخارجية، الإغراء لجذب الاستثمارات وتأمين القطع الأجنبي ، المقدرة على شق الصف الدولي بفعل امتلاكها مقومات القوة.
ثالثاً: قال محسن خجسته مهر، المدير التنفيذي لشركة النفط الوطنية الإيرانية، اليوم السبت، إن الطاقة الإنتاجية للنفط الإيراني عادت إلى مستوى ما قبل الحظر، والسبب بفضل أكثر من (1800 ) عملية تم تنفيذها في الآبار النفطية، وأكثر من(250) عملية ترميم أساسية. وبطبيعة الحال الجغرافيا الإيرانية البالغة مساحتها (636,400 ميل مربع) المتعددة التضاريس والأقاليم تحتوي من الثروات ما يكفي حاجات إيران، الجدير بالذكر أنّ مستوى إنتاج النفط في إيران بلغ نحو 3 ملايين و838 ألف برميل يومياً قبل الحظر الجديد، أي قبل شهر سبتمبر 2018م.
والقوي بالأمر أنّ مناطق مثل في زاغروس وأحواض الخليج الفارسي الصخور المسامية الكريتاسية العالية والكربونية الثلاثية تشكّل خزانات النفط الهامّة جداً، في حين أن كربونات بيرمو- ترياسيك، وخاصّة تشكيلات دالان وكنجان، هي الخزانات الرئيسية للغاز والمكثفات. وهذه المناطق أسلحة اقتصادية إيرانية.
رابعاً: أكد الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، اليوم الخميس، أن طهران لم تربط حياة الناس والاقتصاد بالاتفاق النووي والمفاوضات النووية الجارية في فيينا مع القوى العالمية، لأن إيران تدرك جيداً طبيعة التعامل السياسي مع الولايات المتحدة الأمريكية التي لا يمكن الوثوق بها ولا التعويل على الاتفاقيات والمعاهدات معها ولقد كان الانسحاب من الاتفاق النووي عام 2015م دليل لذلك، هذا يعني تخصيص إيراني لمصادر دخل للشعب وإنتاج وتوريد أخذاً بعين الاعتبار المضايقات كافّة، في معرض الحديث قامت مؤسسة المستضعفين التي ورثت ثلاثين بليون دولار أمريكي من خزينة الشاه بعد ثورة 1979م بتحمل تكاليف إعادة الإعمار بعد الحرب العراقية الإيرانية، واليوم يوجد مؤسسات أخرى موازية للاقتصاد الرسمي يمكنها انتشال إيران بنسبة كبيرة تتجاوز الـ 50 %.
خامساً: مكاسب ما بعد الاتفاق النووي وهذا بحث علمي بحد ذاته وإن كنا نستخدمه كمؤشر فقط فرفع العقوبات سيؤدي لعودة الأرصدة المجمدة والشركات وإعادة أرصدة كبار الشخصيات الهامة المحجوز على أموالهم ورفع الحظر على الدخول بعمليات استيراد وتصدير مع إيران ، وسيحقق في حال الالتزام به طفرة اقتصادية هائلة، ولكن يا ترى هل ستسمح أمريكا بها؟ وما هي التعهدات الإيرانية المقدمة لأطراف فينا بشأن كيفية توظيف وتوجيه المكاسب المنتظرة بما أنّها تشكّل هاجساً أمنياً لأمريكا وحلفائها كما تضع في حسبانها تعاون إيران مع أعداء أمريكا أي الروس والصينين، ولكن ما الذي يشعر أمريكا بأن إيران خرجت من تحت عباءتها وتمردت عليها؟! حتى تعاملها بمنطق المنّة والتخوف؟
بالنتيجة إنّ هذه المؤشرات لتعافي الاقتصاد الإيراني وعودة لسابق عهده نوعاً ما تستلزم إثباتات عملية وواقعية أكثر، ورغم ذلك أقول: “ستعقبها الكثير منها أيضاً” ولقد جاءت بأجمعها نتيجة إتقان القيادة الإيرانية عبر الأدوات الإعلامية والسياسية والعسكرية لاستخدام الملف النووي كورقة ضغط ضد الأمريكي وحلفائه الذي قابلوا إيران بورقة ضغطهم التي هي العقوبات الاقتصادية، والغاية أبعد بكثير ألا وهي تجريد إيران من مقومات قوتها العسكرية التي لم تخسرها بفعل المقومات الأخرى لقوتها لا سيما براعتها الدبلوماسية والاقتصادية وأدواتها الرابحة الأخطبوطية خارج حدودها وضمن تحالفاتها.
بقلم الدكتور ساعود جمال ساعود