في محافظة حماة السورية، تحديداً منطقة سهل الغاب، حيث العديد من القرى تفتقر إلى المراكز الهامة للتنشئة العلمية المتقدمة والمطلوبة في أسواق العمل، رغم توفر المدراس على اختلاف مراحلها، في عصر التقانة والتكنولوجيا والعولمة بطرازها المعاصر وأنماط الإنتاج الجديدة، تتزايد مطالب امتلاك مهارات اللغات الأجنبية، لتبرز هاهنا الصعوبات والتحديات، من قبيل تدهور الواقع المعيشي لأبناء هذه القرى منذ عام 2011 مروراً بسقوط النظام لغاية الآن، إضافة إلى قلة أعداد الطلاب الذين يكملون مشروعهم العلمي في مرحلة الدراسات العليا، وتزايد حركة السفر إلى الخارج، مما أبرز الحاجة التوأمية العملية والعلمية، لقنوات تتولّى مهمة الإعداد والإنتاج والتسليح بالمستلزمات المعرفية والأدوات العلمية.
هنا بيت القصيد، فعلى عكس الكثير من نماذج الفتيات اللواتي تلوث فكرهن بمغريات العصر، تخرج من تحت الرماد، شابة طموحه بعزمها المتقد، نافخة في النفوس والعقول عبر بوق الطموح والأمل، مخاطبة الأجيال: ” مزقوا أكفانكم وعانقوا المستقبل بعزيمة وإرادة لا تتزحزح”. الآنسة (لبنى محمد حبيب) ، تربت في كنف سيد وأم فاضلين حرصا على غرس القيم والأخلاق الفاضلة في قلوب أبنائهم وبناتهم، فجاءت الطفلة لبنى ثمرة هذه التنشئة السليمة؛ لبوة زينبيه فاطمية، تعانق السماء أنفة وجمالاً وأخلاقاً، وحباً لعلمها الذي جسدته بعلاقة روحية قل نظيرها مع اللغة الإنكليزية، هذا الحب وبما فيه من إيمان بالذات وحباً لرؤية الآخر بأبهى صورة، دفعها للسعي وراء شغفها وطموحها، وتأسيس معهد خاص للغة الإنكليزية أطلقت عليه” معهد الشمس”، سرعان ما انتزعت موافقة وزارتي التنمية الإدارية ووزارة الخارجية والمغتربين، لتصبح ممارستها لعملها قانونية ورسمية، ليشكّل هذا المعهد فيما بعد قبلة للراغبين بتعلم الإنكليزية من أبناء قريتها والقرى المجاورة، التي ما تزال تفتقد لمثل هذا المعهد ولأشخاص بكفاءة مديرته وأخلاقها وتعاطفها مع أبناء المحيط على اختلاف مشاربهم وطبقاتهم الاجتماعية، وعن الوافدين إليها، فهم عطشى للعلم والمهارة، استوعبتهم، حتى بدأت تتوجه المراحل العمرية الصغيرة مرورا بالجامعيين وصولاً إلى بعض الأفراد من طلبة الدراسات العليا، مشهداً تألفه العين وتُسر به، ورغم هذا وذاك تمضي لبنى حبيب بحبها وترد بكل نجاح وإنجاز تحققه، الصاع صاعين لصعوبات الحياة وتقلبات الدهر التي كابدتها سوريا خلال الحرب عليها وفيها، هذا ما أثار الفضول والاهتمام والرغبة لدى صحيفة “مرصد طريق الحرير” ممثلة برئيس مركز الدراسات السياسية، للتواصل مع الآنسة لبنى حبيب، للتعرف على واقع المعهد عن كثب ومعاينة الصعوبات التي تواجههم والأثار التي تركها تأسيس المعهد وأهم النتائج على مستوى المتعلمين في المعهد، فكان أن طرحنا الأسئلة الأتية:
بدايةً، يسرني الترحيب بك آنسة لبنى، ولندخل في صلب الموضوع نظراً لكثرة الأسئلة التي تتطلب الإحاطة ببعض جوانبها، ما هي البرامج التعليمية الرئيسية في المعهد، وكيف تتناسب مع احتياجات الطلاب من مختلف الأعمار والمستويات، بدءًا من الأطفال الصغار إلى طلبة الدراسات العليا؟ لتجيبنا مديرة المعهد في قرية نهر البارد، قائلة: دعني أوضح بأننا نتبع برامج متقدّمة على غرار بقية المعاهد الكبرى المتمركزة في المدن الرئيسية في سوريا، بل نضاهيها في أحيان كثيرة، على سبيل المثال، نستخدم كتب من سلاسل عالمية من أكسفورد، كامبريدج، لونغ مان، تشمل المهارات اللغوية الأربعة (استماع، تحدث، كتابة وقراءة)، كما يوجد سلاسل مخصصة للأطفال وأخرى لليافعين والجامعيين في المراحل الدراسية المتقدمة، تؤهلهم للتقدّم لفحوص اللغة كـ توفل، الآيلتس واكسفورد، هذا الأمر الذي كان يتطلب سابقاً خلال فترة الحرب السفر إلى بعض الدول المجاورة جراء العقوبات التي فُرضت على سوريا وما أتبعها من حركة إغلاق لسفارات ومعاهد تتبع لبعض الدول ذات النبرة غير الودية، علاوة على مسألة التقدم للامتحانات، التي كانت تتم أيضاً خارج سوريا.
سؤال: نعم، آنسة لبنى هل تتحدثين لنا، كيف واجهتِ التحديات اللوجستية والمالية أثناء تأسيس المعهد، خاصة في ظل الحرب والأوضاع الاقتصادية والمزرية والمعيشية لدى ذوي الطلاب؟
الجواب: بكل تأكيد، حقيقةً لم يكن الوضع سهلاً أبداً وخصوصاً إنه قد تم افتتاح المركز في عام ٢٠١٩ في فترة الأزمة الاقتصادية، لكننا رغم ذلك حاولنا قدر الإمكان أن نضع رسوم مالية مناسبة للجميع، ولقد واجهنا الواقع القاسي بمزيد من الصبر والإيمان بالله، وحاولنا قدر الإمكان أن نضع كل ثقلنا بعملية التعليم، وأن نستقدم أحدث التقنيات التكنولوجية رغم صعوبة الظروف، ومن ثم تطبيق أحدث الوسائل التعليمية التي تكفل لنا القيام بالعملية التعليمية على أكمل وجه، بغية تمكين الطالب من الحصول على أفضل النتائج التي تزيد من نسبة الاستفادة في مجال غرس المعلومات وإكساب المهارات المتعلقة باللغة.
حسناً، نكمل أسئلتنا، بماذا تعقبين حول الإقبال الجماهيري من قبل قطاع الطلاب على المعهد؟ ما هي النسبة المئوية مقارنة بعدد الطلاب الجامعيين في المحافظة؟ هل تواجهين صعوبات في جذب الطلاب في البداية؟ ما نسبة من قمت بتأهيلهم لأغراض حركة الهجرة إلى الخارج؟
السيدة حبيب، بدون مبالغة وبكل تجرد يمكن وصف الإقبال بـ جيد جدا، ولا نخفي إذ نواجه صعوبات مع طلاب الجامعات بشأن تواجدهم بأماكن دراستهم في محافظات أخرى، النسبة الأكبر تذهب للخريجين، فقد قمنا بتدريب أعداد كبيرة من الأطباء والمهندسين وآخرين، وكانت النتائج جيدة جدا إلى درجة ممتازة وقمنا أيضا بتجهيز أعداد. كبيرة من الطلاب بقصد الهجرة من خلال كورسات مخصصة للسفر من مؤسسة لغة العصر الاحترافية بمجال تعليم اللغات الأجنبية التي تمنح شهادة من وزارة الخارجية السورية بالإضافة للاعتمادية البريطانية.
جميل جداً، حقيقة هذا يشجعني لطرح المزيد من الأسئلة، هل لك أن تحدثيني حول أبرز الإنجازات التي حققها الطلاب في المعهد، وهل هناك قصص نجاح محددة تودين مشاركتها؟
السيدة حبيب تجيب، بكل فخر وسرور لقد حقق الكثير من طلاب المركز المستوى الأول في مسابقة الرواد للغة الإنكليزية على مستوى محافظة حماة السورية منهم الطالبة نسمة محمد على سبيل المثال لا الحصر؛ التي حصلت على المرتبة الأولى على مستوى حماة للصف السادس، والطالب مجد دعبول الذي أخذ المستوى الأول للصف الثالث وآخرون في المراتب الثانية كـ سنا سليمان. وآخرون بالإضافة. لعدد من الطلاب الذين اتقنوا اللغة بشكل جيد وحصلوا على وظائف خارج البلد بسبب مستواهم الجيد.
نعم، حقيقة هذا مدعاة للفخر، بالسياق ذاته، كيف أثر تأسيس المعهد على مجتمع سهل الغاب، خاصة في تعزيز مهارات اللغات الأجنبية التي أصبحت مطلوبة في سوق العمل السوري المتغير؟
لبنى. م. ح ترد، المعهد كان له تأثير إيجابي جداً، فقد لاحظنا أن المشروع خاطب شرائح المجتمع كافة وسلط الضوء على اللغة وأهميتها والنظر اليها من منظور آخر كحاجة وضرورة بالوقت ذاته، بالإضافة لتفتيح أعين الناس على التطبيق الحقيقي للغة ومهاراتها.
السؤال، في الوقت الراهن، ما هي الخطط المستقبلية لتوسيع المعهد، مثل إضافة لغات أخرى أو برامج عبر الإنترنت، في ظل التحديات الراهنة في سوريا؟ طبعاً، المعهد مجهز من كافة المستلزمات من شاشات ومعدات أخرى مع نية لإضافة لغات أخرى لكن تبقى معضلة نقص الكوادر لذلك قررنا تدريب الخريجين بما أنني مدربة معتمدة وحاصلة على شهادة Tesol الخاصة بإعداد مدربين لغة إنكليزية وفق المقاييس العالمية.
لنتحدث من منظور اجتماعي، كيف ترين دور المرأة السورية في بناء المستقبل، خاصة في مناطق ريفية مثل حماة، وما نصيحتك للفتيات اللواتي يواجهن صعوبات مشابهة؟
مديرة المعهد بمعالم جمعت الدمعة والابتسامة تجيب بنبرة الفخر والسرور، لقد دخلت سوق العمل بعمر مبكر في عمر ٢٣، واجهت صعوبات كثيرة أدركت من خلالها بأن المرأة قادرة على فعل الكثير، وخصوصاً أنني افتتحت معهد لغات في الريف الذي يعتبر قليل الخدمات وخاصة المواصلات والمنشآت التعليمية التي أستطيع من خلالها متابعة رحلتي التعليمية فقد كنت أسافر إلى اللاذقية ودمشق لأقوم بدورات ومن ثم أعود إلى قريتي، أخذ التنقل من طاقتي، التي كانت تعود أضعافاً مع كل إنجاز أحققه أنا أو طلبتي، ولكن تمركز المعهد بقريتي في الآونه الأخيرة، ساعد في تمركز طاقتي وجهودي بمكان عملي، ومع إنهائي تحصيل الشهادات اللازمة نظرياً وعملياً، أصبحت شبه متفرغة لعملي وطلابي. وهنا أسمح لي أن أوجه نصيحتي للنساء عموماً أقول:” أوصيكن بالجرأة وعدم الانصياع لمخاوف الخطوة الأولى أي رهبة البدايات، الأهم هوالتركيز على المهارات ومزاولتها لدرجة الإتقان بشكل جيد جداً، والمحاولة قدر الإمكان أن تطورن أنفسكن قدر الإمكان بكافة مستلزمات تطوير الذات بما في ذلك مهارات اللغة”.
الكلمة الأخيرة، إذا كان بإمكانك مخاطبة الأجيال الشابة في سوريا، ما هي الرسالة الرئيسية التي تريدين إيصالها من خلال تجربتك مع معهد “الشمس”؟
الآنسة لبنى حبيب: لا يوجد شعور يضاهي شعور الإنسان بالنجاح، سأقول لهم كما أقول لطلابي اختر القسم الجامعي الذي تحب، ولا تقارن نفسك بأحد، وحاول أن تعطيه كل طاقتك لأن النجاح يصل من قلوب المحبين بشكل أسرع لأن هدفنا الأول والأخير أن نكون مؤثرين بمحيطنا، وأن نكون قادرين و نكون ملهمين للأجيال القادمة، وأن لا يخافوا من الظروف ولا يفقدوا الشغف لأن العلم هو الشي الوحيد الذي لن يخذلهم.
تعقيب ما بعد المقابلة : بتلك الأسئلة أنهيت مقابلتي مع نموذج فريد من نوعه، دون أن يفوتني أن لبنى حبيب ليست الوحيدة في مجال العطاء العلمي والإنساني في قرية نهر البارد – حماة – سوريا، بل هي أحد أفراد كوكبة من الأساتذة الذين تفوقوا على مستوى سوريا بمحافظاتها كافة ، إذ هي تلميذة نجيبة في قرية عرفت الكثير من الأساتذة الأفاضل منهم من انتقل إلى رحمة ربه أمثال الأستاذ عثمان ساعود، أبو شادي محمد يوسف محمود، أحمد نمر(محمد)، الصارم حسن رجب، الفاضل عدنان رجب سليمان، الفاضل عبد اللطيف محمد، الطيب الفطن عبد الكريم محمد، القدير محمد ساعود، وآخرين ما زالوا مصدراً للعلم والأدب أمثال ، الأستاذ الفاضل المربي عبد اللطيف الموعي ، أستاذ السياسة الذي تربت على يده السياسيين، والأستاذ شفيق الموعي، الأستاذ الفاضل علي عبد الكريم محمد وزوجته الفاضلة الآنسة نجلاء سلوم، الآنسة غادة بدور، قاسم ليلا، أمين بدور، عيسى علوش، إبراهيم سلوم، الأساتذة يوسف معروف وزوجته ندى زينه، وأساتذة أخرون بمقتبل العمر منهم الآنسة الفاضلة مروى معن الموعي، الأستاذ مدين طيبا، الأستاذ شعيب نمر محمد شقيق الأستاذ الشهيد توفيق محمد، ولا مفر من إفراد مساحة بيضاء كقلبها ونواياها الطيبة، الآنسة المحترمة ولاء علي جغيلي المتميزة بعلمها وأدبها ومحبتها لاختصاصها وللفقراء ذوي الدخل المحدود ويدها البيضاء الممدودة للخير وديارها المفتوحة للجميع بدون استثناء، فهي الأخرى نموذج فريد وقدوة لمن أهتدى بنور الإنسانية.
وبالنهاية نافلة القول: يبقى الأمل متجذراً في نفوسنا، ثقة بالله وبطيب نوايانا وقدرتنا على التخطي والعبور قدماً، أملٌ يولد كل تسع هنيهات . كل تسع فينات .. كل تسع لحظات، من رحم المعاناة والواقع الضبابي، أمل ملتصق بعقيدتنا وهويتنا ومستقبلنا وبالحب لزمان ومكان تموضع ما بين جبل علا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى من السماوات العلى، تشمخ في أعاليه أشجار السنديان ، تستعصي على نيران جهنم وأحفادها، وبين أحضان الأب الحنون منبع الخير والعطاء ، سهل الغاب بعيونه الخضر، سهلٌ رسمت معالم جماله لوحة خطها الخالق بمياه السواقي وحقول فسيفسائية تنوع زرعها ولونها وثمرها، وبيادر القمح ووقع الأهازيج الشعبية تتغنى بمواسم الحصاد ولياليه، وطيبة قلوب قاطنيها ولين جانبهم، ونارهم التي تنير أعالي الجبال، تهدي حوادي العيس وعابري السبيل وكل قارع باب، ألمّ به داء ووجع وجوع، ملوحة للقاصي والداني أن: “تعال إنّا أهل كرم وصدق وعقيدة” ، سوريون كنا ومازلنا وسنبقى صفحة لا تطوى، متأصلين بالجغرافيا والتاريخ والحاضر والمستقبل.
بقلم الدكتور ساعود جمال ساعود – رئيس مركز الدراسات السياسية بالمرصد