من علاقة المصاهرة التي قربت بين إيران ومصر في ثلاثينيات القرن العشرين وما كان فيها من مشاعر حميمية آنذاك أثمرت تفاهماً وتقارب، إلى الوقوف على حدود الزخم الايديولوجي، هذه العلاقات- رغم كون الطرفين مركز ثقل إسلامي على المستوى الإقليمي- شهدت سنوات طوال من القطعية التي تلاها بعض المحاولات لعلاج ورأب الصدع لكن دونما جدوى، رغم عدم جوهرية الخلاف مما أشار لوجود محددات لموقف الطرفين تجاه بعضهما البعض، علماً أن أغلب المبادرات كانت إيرانية، ومنها زيارة الرئيس السابق أحمدي نجاد إلى مصر، مقابل زيارة واحد من المخلوع مرسي أبن 11/يناير وما تلاها.
أولاً: أهم المراحل الحاسمة بتاريخ العلاقات بين الطرفين، ودلالاتها:
أولاً: مرحلة ما بعد نجاح الثورة: تقول الأدبيات السياسية: ” قطع إيران العلاقات الدبلوماسية مع مصر عام 1980م بعد اندلاع الثورة الاسلامية في إيران، وتحوّل طهران من شرطى الخليج وحليف للولايات المتحدة وإسرائيل في زمن الشاه محمد رضا بهلوي إلى أكثر دول المنطقة عداء للغرب، بينما كانت مصر بقيادة السادات تتهيأ لإبرام معاهدة السلام مع العدو الإسرائيلي، فانحازت إيران إلى “خيار المقاومة” بعد سقوط نظام الشاه في 11 فبراير 1979م”. وتفسير هذه الخطوة أن الثورة الإسلامية كانت بقمة الزخم الايديولوجي عندئذ، كما أن الحشد لها وقيامها، ومن ثم انتصارها تم على أساس عدّة مبادئ منها الموقف من اسرائيل والمتعاملين معه، كما أن إيران لم تكن قد تحولت إلى دولة مؤسسات في ذلك الوقت ولم تكن أسس ومحددات سياستها الخارجية قد تبلورت بوضوح، الأمر الذي يعني أن السلوك الخارجي من الأفضل أن يقوم على أسس المصالح حيث أن مجال التبادلات الدولية يظهر تعاون بعض الاطراف رغم تناقضها ايديويولوجياً.
في هذا السياق، أصدر قائد الثورة في إيران آية الله الخميني، قراراً بقطع العلاقات الدبلوماسية مع مصر، وأصدرت الخارجية الإيرانية بيانا رسميا تفسر فيه أسباب هذا القرار، وكان في مقدمة الأسباب هو الاحتجاج على توقيع مصر اتفاقية السلام “كامب ديفيد” مع إسرائيل، وهو ما اعتبر تدخلا صارخا في الشأن المصري ، وبالتعليق إن هذا التصرف قد أكسب الثورة الإسلامية والقائمين عليها مصداقية في الداخل الإيراني وخارجه نظراً لأنّ شعار الموت لأمريكا الموت لإسرائيل”، كان أساساً ومبدأ قامت عليه الثورة الإسلامية.
استياء دبلوماسي: بعد اتفاقية كامب ديفيد واستضافة السادات لشاه إيران المخلوع محمد رضا بهلوى بعد الثورة الإيرانية، بالمقابل ردّت إيران، وأطلقت بلدية طهران اسم خالد الإسلامبولي المتورط باغتيال أنور السادات، إذ أن لهذه التصرفات رمزيتها الدبلوماسية وعواقبها السياسية التي تسببت بتدهور العلاقات بين الطرفين أكثر.
ثانياً: مرحلة التسعينات: شهدت نوعاً ما من فتح الثغور الدبلوماسية بين الطرفين في عام 1991م في عهد الرئيس حسني مبارك، حيث تم تعيين السفير أحمد نامق رئيساً للبعثة الدبلوماسية المصرية في إيران، والسفير علي أصغر محمدي رئيساً للبعثة الإيرانية بالقاهرة.
ثالثاً: بعد 11/يناير/2011م: مهما يكن من أمر السياسة موقف الإيراني من احداث يناير وإلا أنّها لم يكن لها انخراط مباشر ولا دعم عسكري، بل العكس شهدت تلك الفترة تعاون إقتصادياً لا بأس به، حيث قال حسن كاظمي قمي مساعد وزير الخارجية الايراني للشؤن الاقتصادية خلال المنتدي الاقتصادي المصري الايراني الذي افتتح في يوم 16\10\ 2012م في طهران حول التبادل التجاري، أن الصادرات الإيرانية لمصر زادت من 26 مليون دولار إلى 133 مليون دولار ، وأن واردات إيران من مصر خلال نفس الفترة بلغت قيمتها 40 مليون دولار، ومقارنة بالمراحل التي سبقت هذا التاريخ ، فهو شيء جيد، ووصل الميزان التجاري بين إيران ومصر في عام 2018م إلى (214,693) دولار أمريكي 2020م إلى(1،676) دولار أمريكي وبعام 2021م إلى(4،472) دولار أمريكي، حسب بيانات منظمة التجارة الدولية.
رابعاً: مرحلة ما بعد الاتفاق الإيراني – السعودي:
إنّ حل عقدة الاستقرار والازدهار الاقتصادي والسياسي في منطقة الشرق الأوسط كانت رهن التفاهم الإيراني – السعودي وبقية الدول الخليجية في عالم اليوم، وهما القطبين الإسلاميين الفاعلين على بقية الأطراف الأخرى، فالاتفاق سحب ورقة سياسية من أمريكا ضد دول الخليج، حيث كان لتخويف من إيران سبباً.. إضافياً.. لقوة نفوذها في منطقة الخليج، كما أعطى الدول التي تصطف خلف الدول الخليجية مبرراً لاستئناف علاقاتها مع إيران من منطلق ربطهم لأمنهم مع أمن الدول الخليجية، ومن هذه الدول مصر التي صرّح رئيسا فيما سبق: “أمن الخليج من أمننا”. وهذا ما يدفعنا للسؤال عن درجة الخلاف بين مصر وإيران أولاً هل هي مباشرة أو غير مباشرة؟ وهل يوجد خلافات جوهرية بينهم؟
لا يوجد خلافات جوهرية بين إيران ومصر:
ما تزال بعض الأدبيات والشخصيات السياسية تصرّ على وجود عداء بين القومية الفارسية والقومية العربية، وهذا الكلام ومن وجهة نظرنا ليس صحيح، ولم يعد له وجود في عالم اليوم سياسياً من حيث المقتضيات التي تحتّم التعاون والتشبيك حتى مع وجود خلافات بين الأطراف، وفي حين يقول قسم من المحللين بالسبب الايديولوجي ووجود ردود فعل دبلوماسية سلبية، فإن هذه الأسباب غير كافية وليست جدية لقطع علاقات بين عملاقين اسلاميين كلاهما مركز ثقل موازن للأخر، فلا يوجد اشتراك في الحروب ضد بعضهما، ولا احتلال أراضي ولا غير ذلك، إذاً لا خلافات جوهرية بين الطرفين، بل اقتران مواقف سياسية بمواقف حلفاء أخرون وهذا كل ما في هذا الموضوع، أي تحالفات ومقتضياتها من جهة وتبعاتها من جهة وتوجهات الدولية المصرية الحقيقية لا المعلنة الراغبة بالمهادنة والتفرغ لحياة خالية من التوترات السياسية والعسكرية والحفاظ على أمن ومستقبل شعوبها وأرضها، علاوة على أن النبرة القومية المصرية القديمة المعادية لإسرائيل تتفق مع زخم الثورة الاسلامية ومبادئ الجمهورية الإسلامية.
كما أنّ طبيعة الظرف الذي مرّت به الجمهورية الإسلامية يجعلها بحاجة ماسة لتحالفات جديدة أقليمياً ودولياً، ولكن في حين ترى مصر وترغب بأن تكون مع الأقوى والمسيطر “الذي يخاف من شره” ، ترغب إيران أن تحافظ على خصوصيتها وطبيعتها ونهجها السياسي المستقل الرافض للإذعان والخضوع على حساب السيادة والمصلحة في الحاضر والمستقبل، أي لمصر وإيران خطان سياسيان لا يلتقيان لفترة طويلة نتيجة التوجهات القيادية السياسية لكلا البلدين وتراوحها بين شجاع رافض وأخر مهادن .
ما الدليل أن مصر مرتبطة بمواقفها الخارجية لدول أخرى؟
على عكس ما صرّح به وزير الخارجية المصري السابق محمد العُرابي: “أن القرار المصري بالنسبة للسياسة الخارجية .. لا يخضع لأي ضغوط خارجية، سواء أمريكية أو غربية أو إسرائيلية، مشيرا إلى أن مصر تأخذ في الاعتبار فقط ما يفيد المصالح المُباشرة لها، وما يخدم الأمن القومي لمصر”. برأينا هذا الكلام مشكك به.
1. لأن الرئيس السيسي ربط بين أمن مصر وأمن الخليج:” خلال حواره عبر قناة فرانس 24 قال الرئيس السيسي: “علاقتنا مقطوعة مع إيران منذ قرابة الـ40 عاماً، ونسعى لتخفيف التوتر الموجود وضمان أمن أشقائنا في الخليج”، يعني تبنّي وجهة النظر الخليجية بهذا الموضوع والتي فحواها إتهام إيران بالضلوع في (مسائل أمنية تتعلق بأمن الخليج وتهريب المخدرات ودعم الحوثي في اليمن والتدخل في الشؤون الداخلية لمملكة البحرين، ودعم بعض الجماعات المسلحة في دول مجاورة تهدد المصالح الخليجية)، والدليل على صحّة هذا المنطق تصريح وزير الخارجية المصري السابق محمد العُرابي لبي بي سي إن: “القاهرة لا تفضل الهرولة باتجاه تطبيع كامل للعلاقات مع طهران، وأنّها تفضّل أولًا تقييم الموقف، ودراسة مسألة التدخّلات الإيرانية في الشؤون الداخلية للدول العربية، وهل حدث تغيير في هذا الإطار أم لا”/ وذلك عقب تصريح السيد علي خامنئي أن بلاده ليس لديها أي مشكلة في “عودة العلاقات بشكل كامل مع القاهرة في إطار التوسّع في سياسات حُسن الجوار، واستغلال طاقات وإمكانات الدول الإسلامية لتعود بالفائدة على جميع شعوب ودول المنطقة”.
هذا العزل السياسي الذي جاء عقب توقيع الاتفاق السعودي – الإيراني وقبل ذلك لم يكن هناك أي تصريحات رسمية مصرية عن العلاقات مع إيران إلا بشأن إعلان القطعية معها، لغاية اعلان الاتفاق المزمع ذكره، حيث بدّأت التغيّرات تحصل في الجانب المصري، أي إن الموقف المصري من إيران توقّف على جملة من المحدّدات:
أولاً: ربط الأمن القومي المصري بالأمن القومي العربي: هذا يحتاج لتدقيق والسؤال هنا: ألا يقتضي تشعبات الأمن القومي ربطها بالأمنين: العربي والاسلامي، ولماذا دول الخليج (عمق استراتيجي) لمصر بينما إيران التي هي كذلك بالنسبة لمصر لا نجد السيسي تعتبرها عمق استراتيجي؟!! بل يربط من مصر بأمن الخليج.
ومن الطبيعي إخفاء اللهفة المصرية لعودة علاقاتها مع إيران والقول بضرورة التريث، حيث أرتأى الوزير السابق العرابي:” أنّ الأجواء حاليا باتت إيجابية بعد الاتفاق السعودي الإيراني الأخير، لكن يجب الاستمرار في تقييم الموقف بتأنٍ وعنايةٍ، وعدم التسرع في اتخاذ قرارات دون مردودٍ إيجابي للمصالح المصرية” ، هذا المردود الإيجابي للمصالح المصرية هو ما أسماه وزير الخارجية سامح شكري في العام الماضي بـ ضوابط استئناف العلاقة الي لخصها سابقاً بوجود تغيير في المنهج والسياسة إزاء المنطقة، والسعي إلى بناء علاقات على أسس من التعاون والاحترام المتبادل والتكافؤ في المصالح، واحترام استقلال الدول العربيّة وسيادتها على أراضيها وعدم التدخّل فيها، والكفّ عن السعي إلى فرض النفوذ”. والان كل هذا الكلام إلى زوال في ظل الصلح السعودي الإيراني، علماً أن للعلاقات بين إيران ومصر الكثير من العوامل المساعد لاستئنافها منها التنسيق بين مصر وإيران في المنظمات والمحافل الدولية وتشترك البلدين في عضوية ترويكا منظمة دول عدم الانحياز، وموقف مصر من الملف النووي الإيراني: بعد توقيع الاتفاق النووي في يوليو 2015م، علقت الخارجية المصرية قائلة: “نأمل أن يكون الاتفاق شاملا ًمتكاملاً، ويؤدّي إلى منع نشوب سباق للتسلّح في منطقة الشرق الأوسط وإخلائها بشكل كامل من جميع أسلحة الدمار الشامل بما فيها الأسلحة النووية، وبما يؤدي إلى تحقيق الاستقرار والأمن في المنطقة” ولم يتغير موقفها بعد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن استراتيجيته تجاه إيران والاتفاقية النووية.
بالنتيجة: إن ربط أمن مصر بأمن الخليج لها تبعاته واخطرها تبني الاتهامات الخليجية لإيران، وتوقف “كسر الجليد” بين إيران ومصر على “كسر الجليد” بين إيران ودول الخليج، أما وقد تم ذلك، فإنّ ما نشهد من تغير في المواقف وأخرها ما أعلنه الرئيس الإيراني:” أن الوساطة العمانية أخبرته برغبة الرئيس السيسي بإعادة العلاقات مع إيران بالكامل”. هو أمر دراماتيكي وطبيعي، ومن هنا نقول إن دول الخليج هي المفتاح الجيوسياسي لعودة العلاقات الإيرانية – المصرية
بقلم د.ساعود جمال ساعود