ثلاثة أحداث جاءت محملة بالدلالات حول النهج السياسي للصين تجاه ما يواجهها من تحديات بشكل خاص وإزاء ما تشهده الساحة الدولية عموماً من أحداث في ظل التوترات الحاصلة والتطوّرات التي تنبؤ بتغييرات جوهرية في بنية النظام الدولي.
البداية بتحديد هذه الأحداث الثلاثة التي قد يعتبرها البعض مؤشرات، ولكن وجدنا بها أفعال تفصح عن سياسات متكاملة، تجلّى أولها باللقاء الذي جمع وزيري الخارجية الصيني الحالي والأمريكي الأسبق هنري كسنجر، وثانيها تمثلت بالكلمة التي لقاها وزير الخارجية الصيني أمام الجمعية العامة بالأمم المتحدة، في حين تجسّد ثالث هذه الأحداث بالرسالة شديدة اللهجة التحذيرية من الصين لإسرائيل، وفي سبيل خطورة دلالات كل منها سُتدرس كل واحدة بانفراد.
بالنسبة للحدث الأول، فقد نقلت (شينخوا) يوم الاثنين تاريخ 20 /سبتمبر/ 2022م أخباراً عن لقاء ضم وزير الخارجية الصيني وانغ يي في نيويورك مع وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر أحد قيادات اللجنة الوطنية للعلاقات الأمريكية – الصينية والموصوف بالصديق القديم والجيد للشعب الصيني، حيث ركّز وأكّد وزير الخارجية الصيني على البراغماتية الصينية التي تجنح نحو التهدئة مقابل التصعيد الذي شنّه الأمريكي منذ قدوم بايدن الذي أعتبر الصين منافس رئيسي للولايات المتحدة الأمريكية، عكس الصين التي تدرك المفرزات السلبية التي ممكن أن تنجم عن نشوب أي صراع، حيث شدد وزير الخارجية على أن السياسة الصينية نحو الولايات المتحدة حافظت على الاستمرارية والاستقرار، وأشار وانغ إلى أنّ الرئيس الصيني شي جين بينغ طرح المبادئ الثلاثة المتمثّلة في (الاحترام المتبادل- والتعايش السلمي- والتعاون متبادل) الربح بين الصين والولايات المتحدة، وأكد وزير الخارجية الصيني أنّه ينبغي اتباع هذه المبادئ الأساسية على نحو مشترك في المرحلة القادمة، وبالمجمل تمخض عن اللقاء توضح إحدى أبعاد الاستراتيجية الصينية تجاه المجتمع الدولي ألا وهي البراغماتية والتهدّئة تجاه التوتر بينها وبين الولايات المتحدة وكذا باقي الدول على ذات المنوال.
وأما بالنسبة للحدث الثاني، وفي يوم الأربعاء 21/9/2022م، وجهت الصين “رسالة تحذيرية شديدة اللهجة” إلى الحكومة الإسرائيلية، حذرت خلالها تل أبيب من الرضوخ للضغوط الأميركية، والإضرار بالعلاقات مع السلطات في بكين، وذلك بحسب ما كشف موقع “واللا” الإسرائيلي المعادي، حيث حذّرت الصين اسرائيل رسمياً من الخضوع للإملاءات الأمريكية لأنّ ذلك سيضرب العلاقات الصينية – الإسرائيلية، أنّ العلاقات مهمّة بالنسبة للصين، ويجب أن تحافظ على مسارها خصوصاً في مجال التكنولوجيا؛ الأمر الذي يقضي بتحييد السياسة جانباً، كذلك الأمر فقد تكشفت أحدى أبعاد الاستراتيجية الصينية فيما يخص أسس علاقاتها الخارجية تحييد السياسة في حال الإضرار بحجم المكاسب الفعلية بأوجهها المتعددة في حال حدوث أي احتكاك أو توتر سياسي.
أما الحادثة الثالثة ، لم تكن الكلمة التي ألقاها وزير الخارجية الصيني في المناقشة العامة للدورة الـ77 للجمعية العامة للأمم المتحدة في 25/ سبتمبر/ 2022م، كلمةً عادية، بل كانت مليئة بالدلالات والإشارات، هذه الكلمة التي اتخذت شكل خطاب مطول ، عكس في طياته ومضامينه التوجّه الصيني العام تجاه إلى ما تشهده الساحة الدولية من أحداث ساخنة، وضبطاً لموقع وموقف الصين منها، وتحديداً لأليات تعاملها معها أي الواقع ومستجداته الطارئة، وتحدّياته المتنوعة الأبعاد والوجوه، لذا إن إجراء مراجعة بسيطة لكلمة وزير الخارجية الصيني ستمكننا من استنباط أهم المرتكزات العامة للاستراتيجية الصينية تجاه التحديات التي تواجهها في الوقت الراهن، والتي نوجز أهمها في النقاط الأتية:
أولاً: الدعوة إلى بذل الجهود الدولية من أجل السلام والتنمية، وتحمل المسؤولية من أجل التضامن، والتقدّم في ظل الأوضاع التي وصفها وزير الخارجية الصيني بقوله: “إن العالم يعيش أوقاتا محفوفة بالتحديات”. ولقد تم ذكر أسباب هذه الدعوة بالحالة الحرجة التي وصل لها المجتمع الدولي اليوم، والتي تتمثّل بدخول العالم مرحلة جديدة تتسم بالاضطرابات والتحوّلات والتغيرات.
ثانياً: حزم الصين بشأن كيفية الاستجابة لنداء العصر ومواكبة اتجاه التاريخ لبناء مجتمع مصير مشترك للبشرية، يدعو إليه الرئيس الصيني شي جين بينغ، مع التأكيد نّ السلام والتنمية يمثّلان الاتجاه الأساسي للعصر في جميع أنحاء العالم.
ثالثاً: دعوة دول العالم من أجل التمسّك بالسلام ومعارضة الحرب والاضطرابات، حيث دعا وانغ جميع الدول إلى الاستمرار في الالتزام بمعالجة الخلافات بالوسائل السلمية، وحل النزاعات من خلال الحوار والتشاور.
رابعاً: يتعين على الدول أن تدعم نظام التجارة متعدّد الأطراف، وفي القلب منه منظمة التجارة العالمية، وأن تسعى إلى بناء اقتصاد عالمي مفتوح.
خامساً: حث الدول على الانخراط في الحوار والتشاور والتعاون المربح للجميع، ورفْض الصراع والإكراه واللعبة ذات المحصلة الصفرية، مشددا على أنه يتعين على الدول أن تعارض جماعات المصالح السياسية ومواجهة الكتل بشكل مشترك.
سادساً: الوقوف ضد رسم الخطوط على أسس أيديولوجية (الانقسام الإيديولوجي) ، والعمل معاً من أجل توسيع الأرضية المشتركة وتقارب المصالح لتعزيز السلام والتنمية على مستوى العالم.
سابعاً: دعوة الدول إلى تعزيز وممارسة التعددية الحقيقية، وتعزيز المساواة بين جميع الدول من حيث الحقوق والقواعد والفرص.
ثامناً: تجديد أليات العمل الدولي عبر المنظمات الممثّلة له، عبر بناء نمط جديد من العلاقات الدولية يتسم بالاحترام المتبادل والإنصاف والعدالة والتعاون المربح للجميع، ولقد تم التأكيد من الطرف الصيني أن الصين صانعة السلام على مستوى العالم، ومساهمة في التنمية العالمية، ومدافعة عن النظام الدولي، ومقدمة للمنافع العامة، ووسيطة في القضايا الساخنة.
تاسعاً: مواجهة التحديات المختلفة في الوقت الحاضر اعتماداً على أليات سياسية فعّالة على رأسها؛ اقتراح الرئيس الصيني تشي جي بينغ مبادرة التنمية العالمية، وهي دعوة للحشد من أجل إعادة تركيز اهتمام المجتمع الدولي على التنمية وبناء مجتمع عالمي للتنمية، وكذلك مبادرة الأمن العالمي، التي تساهم برؤية الصين للحد من الافتقار للسلام الذي يواجه البشرية، وتقديم مساهمة الصين في مواجهة التحديات الأمنية العالمية.
عاشراً: إحباط الأنشطة الانفصالية بحزم وفقاً للقانون ومواجهة أي مخطط للتدّخل في الشؤون الداخلية للصين، والتأكيد على وحدة الأراضي الصينية وسلامة أراضيها ورفض التدخل بالشؤون الداخلية لها وبذل الجهد لتوحيد البلاد من قبيل التأكيد أن تايوان جزءاً لا يتجزأ من أراضي الصين ، وأن حقيقة أن البر الرئيسي وتايوان ينتميان إلى صين واحدة، حيث أكد وزير الخارجية الصيني أن مبدأ صين واحدة أصبح عرفاً أساسياً في العلاقات الدولية، وتوافقاً عاماً في المجتمع الدولي. وفي هذا السياق ذكّر وزير الخارجية بقرار الأمم المتحدّة رقم 2758 الذي تبنّته الجمعية العامة بأغلبية ساحقة، الذي نص على استعادة المقعد القانوني لجمهورية الصين الشعبية في الأمم المتحدة وطرد “ممثلي” سلطات تايوان من المكان الذي احتلوه بطريقة غير قانونية، ومنع سياسياً وقانونياً وإجرائياً بشكلٍ كامل أي محاولة من قبل أي دولة لخلق ” دولتين صينيتين” أو “صين واحدة وتايوان واحدة”.
الحادي عشر: متابعة مسيرة التحديث ذات الأهمية بعيدة المدى والعالمية بمفرزاتها الإيجابية المتوقعة على الصعيد الداخلي، وذلك بحكم موقعها وحجمها كـ دولة تضم خمس سكان العالم عبر تنفيذ فلسفة تنمية جديدة تتميز بالتنمية المبتكرة والمنسقة والخضراء والمفتوحة للجميع.
الثاني عشر: رفض النهج الغير منطقي واللاقانوني واللاسلمي من خلال التأكيد على رفض المضي بطريق الاستغلال المدمر للموارد، وطريق لعبة المحصلة الصفرية، وطريق النهب والاستعمار على حد تعبير وزير خارجية الصين، والإسهام بمدخلاتها في مواجهة التحديات التي تواجه تنمية البشرية وتقديم مساهماتها لخلق شكل جديد لتقدم البشرية.
الثالث عشر: ترسيخ مبدأ التعاون الدولي السلمي كنهج عالمي للصين، حيث قال وانغ إنّ الصين ستعمل مع الدول الأخرى لبذل كل الجهود لتحقيق السلام والتنمية، وتحمل مسؤولية التضامن والتقدم، وبناء مجتمع مصير مشترك للبشرية، واحتضان عالم أفضل.
بالمجمل لقد جاء التأكيد الصيني على النقاط سالفة الذكر التي وصفناه بكونها أساساً لمعاملاتها الدولية نتيجة للظروف الراهنة التي تشهدها الساحة الدولية والتي تتمحور بنسبة كبيرة منها حول الصين التي تمارس بحقها اليوم سياسيات اقتصادية تستهدف تطويق تقدّمها المذهل رغم عبثية هذه المساعي ، كذلك مبادرات الابتزاز الأمني والعسكري في شؤونها الداخلية رغم تأكيدها عن نأي نفسها عن أي نزاع دولي وانتهاج السلام مع الجميع، ولكنها سياساتها المعلنة لم تخلو من تشكيك الدول الكبرى بها، ولم تؤخذ على محمل الصدق رغم الإثباتات العملية، مما يثبت أن لهذه الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية تخوفاتها الخاصة من الصين التي تصف نفسها “بالنامية” لا “المتقدمّة” رغم أنّها متقدّمة بالفعل ولكن هذا ابتعاد عن المواجهات العبثية التي تستنزف الموارد والجهود، كما تُنبئ سياسيات الدول الكبرى بكونها تعتبر الصين خصماً يجب الحد من نمو قواه وتوجيه ضربة لمقومات قوته وإشغاله، وهذا ما يثبت أن الأمريكي يدافع بشراسة عن الأحادية القطبية، عبر العمل السياسي والاقتصادي والعسكري على تأخير ظهور أقطاب أخرى مناظرة لهم، الأمر الذي يخلق تصوراً وإن كان مبالغ فيه، أن الولايات المتحدة الأمريكية بمؤسساتها التي تديرها فعلياً تعتقد أن التعدد القطبي سيؤدي إلى زوالهم من الوجود وهذا ما أسميه “هواجس انبعاث الأمبراطوريات” رغم أن الحلف الأمريكي ومن ينطوي من دول تحته هي بحد ذاتها ” أقطاب متعاضده” ولهذا كله يقودنا للحكم بأنّ الصين بالنسبة للأمريكي مسألة أمن وجودي ثير مخاوفها بقوتها وتبعث فيه الطمأنينة بضعفها.
بقلم د. ساعود جمال ساعود