أثار عبور السفن الإيرانية في قناة بنما بعد السماح رسمياً لها بالمرور مروراً بجولة وزير الخارجية الإيراني الذي وصف المواقف الإيرانية- اللاتينية حيال القضايا الدولية بأنّها صائبة في إشارة منه إلى وحدة المواقف بين الطرفين، وصولاً إلى جولة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في أميركا الجنوبية والتي شملت فنزويلا وكوبا ونيكاراغوا، وهذا ما مثّل توجّه جديد في السياسة الخارجية الإيراني في ظل ظروف محاصرة الأمريكي ومحاولات التضييق عليها.
وحول أسباب الحضور الإيراني كثرت الآراء التي قدمها المختصين ولكن يلاحظ أنه يغلب عليها العمومية وعدم تحديد المعطيات التي تم الاستناد إليها لتبدو بذلك وكأنها أقرب إلى الآراء الشخصية من كونها نتائج بحث علمية، ومن ضمنها:
1. وجود قواسم مشتركة منها جهات نظر سياسية ودولية وثيقة ومشتركة مع الجمهورية الإسلامية من قبيل معارضة سياسات الولايات المتحدة الأمريكية.
2. تنمية العلاقات المتبادلة في المجالات السياسية والاقتصادية والتعليمية والثقافية ورفع مستواها.
3. قسم أرتأى مساعي الإيرانيين لتوثيق العلاقات مع دول أمريكا اللاتيني في المجال الاقتصادي حصراً دون غيره. مؤكدين أن الجانب الاقتصادي يطغى على الأجندة التي يحملها الوفد الإيراني في جعبته.
4. أوضح البعض أن زيارة رئيسي تأتي في سياق تشكيل التحالفات الثنائية لمواجهة السياسات الأميركية، مستندين إلى توقيع الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ونظيره الفنزويلي نيكولاس مادورو في يونيو/حزيران 2022م خطة للتعاون الشامل على مدى 20 عاماً.
5. قال المحلل السياسي الإيراني سعيد شاوردي:” الحضور الإيراني في “حديقة واشنطن الخلفية”، لموازنة حضور الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط، ولا سيما حضورها العسكري في المياه الخليجية”.
6. شرح شاوردي أنّه بعد نجاح أسطول بحرية الجيش الإيراني في الحضور بالمياه الإقليمية لدول أميركا اللاتينية على مقربة من المياه الأميركية، يقوم الرئيس الإيراني بزيارة إلى الدول الحليفة لتكريس هذا الحضور العسكري من جهة، والتنسيق من أجل الالتفاف على العقوبات الأميركية من جهة أخرى.
7. شاوردي ” يعزو سبب ذلك إلى العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة على هذه الدول، مؤكدا أن بلاده قامت باستثمارات كبيرة في أميركا اللاتينية، ولا سيما في مجال تدشين متاجر لبيع البضائع الإيرانية، وشراء حصص كبيرة من مصافي النفط وإمدادها بالبترول الإيراني”. وقال أيضاً أنّ:” تنتفع جراء العقود التي توقعها مع دول أميركا الجنوبية، خاصة في مجال تصنيع ناقلات النفط والزراعة العابرة للقارات، لمواجهة الجفاف داخل إيران وتدشين خطوط لإنتاج السيارات الإيرانية هناك، فضلا عن التنسيق السياسي في الأوساط الدولية”.
وبالتعقيب، فإنّ من الطبيعي أن يُبنى صرح العلاقات بين الدول على وجود قواسم مشتركة ليكون الجانب السياسي أساساً لبقية جوانب العلاقة الأهم والتي غالباً ما تكون الغاية من العلاقة، كما هو الحال بالنسبة لإيران وبعض دول أمريكا اللاتينية التي بدأت من بوابة السياسة وصولاً لغايات اقتصادية بحتة.
أتفق مع ما أورده المحلل سعيد شاوردي في تحليلاته ببعض جوانب تحليلاته وأختلف معه في بعضها الأخر لا سيما قضية الموازنة مع الوجود العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط والسبب الفارق في حجم الوجودين، كما أن الوجود الإيراني في امريكا اللاتينية لا يرقى لتشكيل تهديد عسكري خوصاً أنّه على مقربة أمتار من الأراضي الأمريكية، كما أنّه لا يوجد تقدير دقيق لحجم القوات الإيرانية في أراضي حلفائها.
وفيما ما يتعلّق بالجانب الاقتصادي فأتفق بالمطلق مع شاوردي، حيث تبحث إيران عن سبل فك التطويق الأمريكي لها خاصّة الاقتصادي إذا تبحث عن مصادر جديدة وبديلة بنفس الوقت لإشباع حاجات شعبها الاقتصادية كما أوضح عبر خلق استثمارات كبيرة على أراضي الدول المتحالفة معها، وأحد الأدلة توقيع 35 وثيقة تعاون مع الدول اللاتينية وصولاً إلى تشكيل مجموعة عمل الدول اللاتينية حسب ما أعلنه الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي.
وحتى بالعودة لتاريخ العلاقات بين إيران وبعض الدول اللاتينية نجد أن أسبابها التاريخية كانت اقتصادية بحتة وكانت تركز على هذا الجانب أكثر من غيره، بدليل علاقاتها التجارية مع البرازيل مثلاً، والتي تعود إلى قمة مجموعة الـ 15 في كاراكاس عام 2004م، حيث التقى الرئيسان، دا سيلفا وأحمدي نجاد، لتوقيع مذكّرة تفاهم لتعزيز العلاقات التجارية بين البلدين، وقعت أنذاك شركة الطاقة البرازيلية العملاقة “بتروبراس” على تطوير علاقة شراكة مع شركة النفط الوطنية الإيرانية للتنقيب عن النفط في منطقة توكسون جنوبي إيران.
وفي عام 2019م أشارت قاعدة بيانات التجارة التابعة للأمم المتحدة إلى أن حجم صادرات البرازيل إلى إيران بلغ نحو 2.2 مليار دولار، فيما بلغ حجم الواردات نحو 116 مليون دولار. وعلى الرغم من أن الميزان التجاري يميل لصالح البرازيل، فقد زادت الاستثمارات الإيرانية بسرعة في عام 2019م.
لا تزال الأرجنتين ثاني أكبر شريك تجاري لإيران في أمريكا الجنوبية، حيث تشير قاعدة بيانات الأمم المتحدة التجارية إلى أن حجم التبادل التجاري بين البلدين في عام 2019 بلغ نحو 697 مليون دولار.
و لا ننسى أن البرازيل كانت ممن أيدوا استهداف الأمريكيين للشهيد سليماني، كما أن الارجنتين تضم أكبر جالية لليهود، علاوة على ديونها لصندوق النقد الدولي حيث الهيمنة الأمريكية، لذا أن تعاون هذه الدولتين كنموذجين مقيدة في تحركها باتجاه إيراد عكس كوبا ونيكارغوا وفنزويلا ولكن ليس بمقدورها خلق حالة من التحدي للأمريكي، فالغاية الإيرانية سلمية اقتصادية للتحايل على الحصار من بوابة السياسية لا أكثر.
ذكر الدكتور محمد عبد المطلب الهوني في بحثة الموسوم بالدور الإيراني في أمريكا اللاتينية أن صعود الدور الإيراني في أميركا اللاتينية يعود – حسب مصادره الخاصة وتأريخه- إلى حكم الرئيس محمود أحمدي نجاد (2005 – 2013)، الذي عمل على توطيد علاقات بلاده بأميركا اللاتينية وخاصة مع فنزويلا، وحسبما نقل المؤرخ البرازيلي البرتو نيسمان أنّه كان لإيران وجوداً في 12 دولة في أمريكا اللاتينية منها الأرجنتين والبرازيل وشيلي وكولومبيا وغيانا وباراغواي وترينيداد وتوباغو وسورينام وأوروغواي، بالإضافة إلى كوبا ونيكارغواي.
اليوم أميركا اللاتينية واحدة من أبرز الدوائر الحيوية للسياسة الخارجية الإيرانية هذا الأمر له ظروفه وأسبابه:
الظروف تتمثّل بجملة ما تعانيه إيران من حصار اقتصادي مطبق عليها من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها سبب لها مشاكل داخلية اجتماعية ذات منشأ سياسي- اقتصادي جعلها تبحث عن منافذ خارجية لإيجاد مصادر بديلة، وإضافية لتأمين حاجات ومشاريعها الداخلية والخارجية ذات البعد الاستراتيجي، وبالنسبة للأسباب التي هيأت البيئة المناسبة لزيادة الانتشار الإيراني في أراضي أمريكا اللاتينية فإنّ أبرزها تنامي المشاعر المعادية للولايات المتحدة بين دول أمريكا اللاتينية، القرب الجغرافي من الولايات المتحدة له أبعاد رمزية أكثر من أي بعد أخر رغم كثرة الآراء التي تقول عكس ذلك.
وبالنسبة للأهداف الحقيقية فإنّه يمكن القول دول أمريكا اللاتينية تضم احتياطيات ضخمة من الثروات والموارد الطبيعية، بما في ذلك البترول والغاز الطبيعي والخامات والنحاس والرصاص، وهذا يضمن لإيران عائدات إضافية، إضافة إلى هدف أخر وضّحه الرئيس الإيراني الأسبق «أحمدي نجاد» بقوله : «متى حاولت الدول الغربية عزل إيران، ذهبنا إلى الفناء الخلفي للولايات المتحدة. أي مواجهة العزلة الدولية التي تفرضها امريكا وحلفائها على إيران، وأهداف أخرى لا نذكرها عمداً حيث تمتلك فنزويلا ثاني أكبر احتياطي عالمي من اليورانيوم.
الجدير بالذكر أن إيران تتمتع بصفة (المراقب) في التحالف البوليفاري من أجل شعوب أميركا اللاتينية «ألبا»، وهي منظمة حكومية دولية تعمل على تعزيز التكامل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لبلدان أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، وسفارات في أميركا اللاتينية وأخرى في تزايد مستمر.
بقلم د.ساعود جمال ساعود